ـ دراسة تحليلية موجزة في سيميائية نص "غريب كملح" للشاعر المغربي "حاج محمد"ـ
النص .. :
(( غريب كملح..
يحمل صوته انحناءً..
مهاجرا مشوه الانتصاب..
ومذاق وجهه بوح تائه..
على تعاريج الشحوب..
وحدي ارتدي عبثي.. ))
الدراسة..:
تجاوز لغة النص الشعرية لمنطقية الخطاب الواقعي ، وجنوحها لمنطقية اللاواقع الفنتازي ، يعد موقفاً مقابلاً من الشاعر للغة ذاتها باعتبارها " لغة الآخر / السيد" ، تلك اللغة المؤسساتية المهيمنة على الوعي الجمعي بما تمتلكه من صولجان السلطوية وطيلسان القدسية، يحولان دون مروق الذات النازعة للخلاص من قبضة سلطانهما الشمولي ، بحثاً عن مراح انعتاقها ، وبوحها بمكنون اغوارها، فيما وراء حدود الواقع المطروق المعاني ، المستهلك الدلالات ، حيث لا محاكم تفتيش تقمع حُرَّ الافكار ، ولارقيباً ( جماذوقياً ) يُخضع المشاعرَ لحدود قياساته الماقبلية .والشاعر كيما يواري حقيقة معاني دلالاته تحت ظاهرها اعتمد تقنيات :
ـ الازاحةاللغوية بانواعها التالية :
أ / التركيبية ( الحذف ، التقديم والتأخير ،التكرار ،.. الخ )
كما في العتبة العنوانية ( غريب كملح ) ، فهي جملة اسمية محذوفة المسند اليه / المبتدأ الذي يصح تقديره بضمير منفصل بالاحالة على المقطع ( وحدي ارتدي عبثي..) حيث تكرارية ضمير المتكلم بنوعيه ؛ المتصل / الياء في الاشارات الثلاث ، و المستتر للفعل ( ارتدي ) ، لذا يمكن تقدير المحذوف ( المبتدأ ) أنه الضمير المنفصل/ انا (الشاعر) ، وقصدية الحذف تركيز اهتمام القارئ على دلالة المسنَد / الخبر (غريب ) ، كونه الاشارة المحورية للحدث
النصي/ بؤرته الدلالية ، كما سيتضح لاحقاً ،
وتكرارية ضمير المتكلم بانواعه ( انا / المنفصل والمستتر ، التاء المضمومة المتصلة بالفعل ، ياء المتكلم ) في النص الثاني ، لذات الافادة التأكيدية.
وفي المقطعين المتلازمين اعرابياً :
(( على تعاريج الشحوب..
وحدي ارتدي عبثي..!؟ ))
يوجد تقديمان كيفيان :
الاول ـ تقديم شبه الجملة (على تعاريج) وحقها التأخير الى مابعد الجملة الفعلية (ارتدي عبثي ) .الثاني ـ تقديم الحال (وحدي) على صاحبه ( فاعل الفعل ارتدي الضمير المستتر / انا ) .
وهذان التقديمان افادا تأكيد دلالتيهما ، كونهما جائزَين .
ب ـ الدلالية (كسر العلاقة المعجمية الثابتة بين الدال والمدلول ) ، كما في المقاطع ادناه : (( غريب كملح..))
ويمكن مقاربة معناها التحتاني ، باستحضار المقطع ((مهاجراً مشوه الانتصاب)) :
تبدد سلامه (الشاعر ) الروحي في المهجر /المنفى ـ بدلالة الملح السريع الذوبان والتفتت في السوائل وبالطَّرْق ـ والغربة / المنفى ، قد يكونان داخليان ( داخل الوطن ) لتقاطع افكاره مع الفكر المؤسساتي الشمولي القاهر .
(( ومذاق وجهه بوح تائه..))
مقاربة دلالات الاشارات :
( مذاق )/ متسقة سياقياً مع/ ملح ،المار ذكرها . (وجه)/ سِمة هوياتية شكلية انسانية هنا ، لتعالقها بالاتباع مع( غريب )ـ علاقة الجزء بالكل ـ ،
(بوح تائه )/ البثّ واظهار مكنون الذات الداخلية المضيَّعة، فلا معنى له ، لانه بلا صدى.
فتكون مقاربة دلالة المقطع التحتانية:
امحاء معالم كينونة الشاعر الوجودية
جـ ـ الاحلالية (إحلال الخيالي محل البلاغي) ، كما في :
(( على تعاريج الشحوب..))/ حيث احل ( الشحوب) محل الطريق ، فالتعاريج / المنعطفات والميلان عن الاستقامة،تلازم الثانية(اي الطريق) تعالقياً في الواقع .
كذا قوله ((ارتدي عبثي.. )) :
ارتداء الاشياء غايته السّترُ والاحتماء.
مقاربة دلالة المقطعين التحتانية :
لوذ الشاعر بلامنطقيته( العبث )،وهو يذوي بين دروب الافول ، بغية وقاية وجوده من الامحاق في الغربة ( التي قد تكون داخلية كما اسلفت ) .
ـ تكثيفية الصور الذهنية ، كما في :
(( غريب كملح )) / مرّ بنا اعلاه كثافة ازاحاتها الدلالية
ـ تراسلية الحواس ، وتتمظهر في :
(( يحمل صوته انحناءً ))
(يحمل):اشارة لملموس/حِمْلٌ ثقيل بدلالة/(احناءً).
( صوته ) : اشارة لمسموع
وكذلك في(( ..مذاق وجهه بوح ))
فهنا تتراسل ثلاث حواس :
( مذاق ) مُتذَوَّق/ حاسة التذوق
(وجه) مرءٍ / حاسة البصر
( بوح) مسموع / حاسة السمع
المقاربة:
ما يستشعره الشاعر من تصدع وامّساخ المعاني الخارجية الدلالة / الواقعية، داخَلَ مابين خصوصية حواسه ، وشوَّش على مزيّتها في نقل العالم الخارجي / الواقع ، الى ذاته العاقلة فماعادت هذه تفهمه / تقاطعية التواصل ،
ـ عنصر الخيال / وهو العنصر الاساس لبنية فضاء النصين الشعوري والمكزماني
ننتهي الى ان تجاوزية لغة النص لقياسات الوظيفة الخطابية / الإبلاغية للغة ، بقصد الانعتاق من اسار سلطتها الشمولية ، قد اتسمت بلامألوفية بنيتها التعبيرية ، والتواري المقصود خلف ظاهر الغموض المعنوي ، بفعل اتساع مساحة الإزاحات المذكورة، وما اضمرته من دلالات تحتانية ، فماهو متعارف عليه ( أن تغيير وظيفة اللغة يستتبعه تغيير منطقها داخل تلك الوظيفة ).
ـ باسم الفضلي العراقي ـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق