لا أريد ان أغادر بيتي//بقلم الأستاذ فؤاد حسن محمد

. . ليست هناك تعليقات:

لا أريد أن أغادر بيتي
تجلس فاطمة السلما القرفصاء حول نار أوقدتها أمام باب منزلها الواقع غرب بلدة الفوعة ،لا يوجد لديها موقد غاز للطبخ ، أو أي مادة أخرى يمكن حرقها غير الحطب ،هذا الحرمان كان أكثر إذلالا لجسدها النحيل من التنظيمات الإرهابية التي تتمركز هناك على بعد مرمى قذيفة .
يدهشها أنها مازالت ربة بيت ، تدندن وهي تطبخ وتعتني بالأولاد ، وهذا يريحها ،تحب أن تفكر أنها في زمنٍ الإخلاص فيه شيء واجب ، بل كانت بذلك أقرب إلى حماية نفسها من الحزن الكريه بمغادرة القرية .
كان يقف خلفها رجل يرتدي بزة عسكرية مموهة ، يحمل على كتفيه بارودة روسية ، وقد تدلت على ظهره جعبة تحوي ضمادات ومواد لوقف نزيف الدم، وصورة لها ولأولادهما ، لم يقل شيئا فقط كان ينظر إلى أطراف البلدة مراقبا بحذر ، ينظر ويراقب .
بدا لفاطمة أنه يقف يحرس لأجلها وحدها ، بهذا الشعور نحو زوجها التفتت إلى الوراء وابتسمت له ، لقد أحبت فيه طريقة إحساسه كزوج ، ترى كم يساوي من يحول بؤسك إلى نعيم ، تبادلت فاطمة مع زوجها نظرات الرضا ، تنهدت بتشنج رئوي مصطنع لتلفت انتباهه :
-إيه ..ماذا قلت يا حسن ...هل سنترك الفوعة حقاً
- نعم
- ألن نكون موضع شفقة .
تنهد تم قال :
-يبدو أن حظنا سيبقى عاثرا
- الله وحده يعلم ماذا سيحل بنا في الزبداني
-هل تذكرين حين مرضت ...أخذتك إلى الشام ...
وحين شُفيتِ عدت بك الى الفوعة
- نعم . نسأل الله أن ينزل رحمته علينا ، قالتها وهي تثبت شعرها الى الوراء .
إعداد الطعام مجهود شاق وهو جزء من عملها اليومي ، الأطفال يلعبون مرحين حول البيت ، يلاحقون الدجاجات بالتناوب ، ويعودون بين الحين والآخر إلى النار للتدفئة ،حيث الحطب الذي يفرقع على النار ، والطعام الذي يغلي على النار تنبعث منه رائحة الدجاج الشهية .
تجمع الأولاد حول الموقد مقرفصين ، غير أن أحد الأولاد الأكبر سنا ظل واقفا ، لكونه يدرك المهمة المناطة بوالده ، كان أشبه بعصفور يقلد نسر ، طلبت منه الأم أن يحضر صحون وطبق كي توزع عليهم وجبة الأرز بالدجاج التي أعدتها .
نظرت فاطمة إلى زوجها وابتسمت له ، وبدا كأنه يفهم ذلك ، شيء من الشكر أو الاعتراف بأن لديها الكثير لتكون ممتنة له ،هي وهو تشاركا في أول يوم لزواجهما ، وتحب أن تكون حتى نهاية العمر ربة منزل تطبخ وتنظف وتلد وتربي ، وهو لن ينسى لها ذلك ، ويقدر كل جزء من هذا العناء .
نقرت فاطمة بالملعقة على الطنجرة محاولة جذب انتباه زوجها ، ونادته بتودد :
-حسن ... عليك أن تأكل وتنام قليلا فأنت منذ عشرة أيام تحرس حدود القرية .
كانت عيناه تجوبان فضاءً فسيحا ، يبحث عن شيء يتلاشى تدريجيا بعيدا ً عن عينيه ، كان يسترجع في مخيلته صورة بيته الذي كان مريحاً وجميلاً لدرجة أوشك على البكاء ، والآن هو بقايا منزل ظل ماثلا ، بضعة قطع أثاث ، وثمة سقف متهدم بفعل قذيفة ، شيد بصفائح مطعجة من التوتياء تسد الفتحة مكان الهدم ، وما تبق مجرد جدران متصدعة .
رغم قسوة الحصار الذي أمتد من عام إلى عام ، فإن الحياة مستمرة ، جلس حسن قرب زوجنه ، وما كاد يلقي نظرة فاحصة على الطعام ، حتى دوى لفترة وجيزة صوت قذائف عشوائية ،نظرت فاطمة إلى عينيه الرماديتين ، لقد فهم الأمر قال لنفسه " هذا المكان أصبح مكاناً آخراً ، فنحن لسنا في الفوعة ، فلا غناء ولا غذاء ولا مدارس ولا أحلام صغيرة ، نحن هنا في قرية يموت فيها الرجال والنساء لأنهم شيعة ، محزنا جدا أن تموت لأنك شيعي موتا جزئيا أو تاما ".
كاد أن يتلفظ هذه الكلمات لكنه أحجم أمام أولاده ، تلك الأشياء لا يجب لليافعين والأطفال أن يحملوها بداخلهم كيي لا يفعلوها إذا أشعروا أنهم سيفعلونها .
انطلاقا من هذه الفكرة كان يعزي نفسه أنه جندي يدافع عن كل الطوائف ،وسوف يتخلص من هذه الفكرة ويرميها في حاوية القمامة ، فهو مازال يحب رائحة القراّن وما زال يضعه تحت وسادته بعد ذلك يغلق عينيه وينام .
كان حسن معجبا بزوجته على تحمل الأسى ، وكل ما استطاع أن يشاركها به هو الأكل بمتعة يضع لقمات ونهض ،بدت التفاتة وجهه شاحبة كأنه طفل أوشك أن ينزع من حضن أمه ،لم يكن قدرا مكتوبا زواجهما ،بل هي المخلوقة التي تخصه تحديدا اختارها بعناية،أحس برغبة وحنين لانهائي في التوحد معها ،لم يكن ما سيحدث أمرا عاديا ، أن ترحل إلى بلدة بعيدة ، وتسكن بيوتا لا روح فيها ، وتمشي في شوارع لا تعرفها ،تعلق سؤال في خاطره " هناك لا يوجد مكان صالح للموت " .
فجأة تذكر أنه يجب ألا يكون متوترا ، فنادى زوجته بهدوء مصطنع وهو يطيل التطلع إلى شجرة اللوز ::
فاطمة ..وحدها الفوعة من تبقى فينا ، هنا بيتنا .... الحرب غيرت منه الكثير ... وبقي منه الكثير ، ، ،معالمه لم تعد موجودة فشجرة اللوز التي تدل الزائر إليه يبست ، وبيت جارنا مسح بالأرض ، ورائحة ترابها تفوح منها رائحة البارود ،أشك أنه هذا بيتنا ، تعالي نلقي علية نظرة أخيرة قبل أن نغادر القرية التي لم تبقى قرية
صوت أوجعها من داخلها :
اسمعني يا حسن كما سمعتك ، ما مر من عمري لم أقول لك كلمة لا ، هل من مكان له اسم نستطيع أن نناديه قريتنا إلا الفوعة .
لا ..هي أمكنة ليست لنا ، سنعاني فيها من إذلال الناس ،من همسهم ولمزهم ومن عيونهم التي تصمنا بالمهجرين .حتى من شتائمهم ،ليس هذا ما يهمني ،ما يهمني أن يبقى أولادنا على قيد الحياة .
مسح حسن رأسه متحفظا ، كان يقصد بكلامه خيرا ، مشي بتثاقل إلى دالية العنب ، نادى زوجته وأولاده بتودد ، أجمل ما كان يروق له التفيؤ في ظلها ، أسترسل في التفكير ،أو أرسل بصره إلى قعر الذاكرة ، ثمة أشياء كانت تحدث يسمع أصواتها الآن ، رغم أنها لم تلفت انتباهه في حينها ، مسح وجهه براحة كفيه ، أغمضهما ،فتحهما ، تأكد أن رحيلهم مثل رفة الجفن ،لا يدري كم من الوقت سيمر ،أدارت فاطمة عينيها في أديم الأرض ، بدا وجهها حزينا وحياديا ،لا صوت إلا اسم الفوعة يطفو على روحها ،فالرحيل حادثة توقف الزمن عند أشياء لم نكن ننتبه لها لكننا نذكرها .
فؤاد حسن محمد – جبلة - سوريا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نـــوافــير للآداب والثــقافة ... رئيس مجلس الأدارة الاستاذ الشاعر علاء الدين الحمداني

أهلاً وسهلاً بك أنت الزائر رقم

النصوص الأكثر قراءة اليوم

اخر المشاركات على موقعنا

بائعة البخور // بفلم الكاتبة // مها حيدر

بحث هذه المدونة الإلكترونية


مجلة نوافير للثقافة والآداب 📰 صاحب الإمتياز الاستاذ الشاعر والكاتب الأديب علاء الدين الحمداني شاعر وأديب / عضو اتحاد الصحفيين/ عضو وكالة انباء ابابيل الدولية/نائب الرئيس التنفيذي لمؤسسة قلم

أحدث التعليقات

Translate

تابعنا على فيسبوك

من نحن

نـــوافــير للآداب والثــقافة ... مجلة عراقية عربية 📰 رئيس مجلس الأدارة الاستاذ الشاعر علاء الدين الحمداني
جميع الحقوق محفوظة لدى مجلة نوافير الإليكترونية ©2018

تنوية

المواضيع والتعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي ادارة المـجلة ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك