الساق الثانية // قصة قصيرة // بقلم الاستاذ// حيدر الدحام

. . ليست هناك تعليقات:

الساق الثانية

بدأ الملل يدب إليه ، وحالة التذمر صفة ملازمة له ، جلس على حافة المقعد ووضع تقارير المختبر وصور الأشعة فوق رجله التي بدأت تهتز بسرعة دون توقف ، توحي بعدم الاستقرار ونفاذ الصبر .
- ألم يحن دوري بعد ؟
- مازال أمامك ثلاثة من المراجعين سيدي .
أنتفض قائمًا ، أخرج علبة السكائر من جيبه الأمامي وقام بإشعال سيكارته ، فلاحظ امتعاض الجالسين من الدخان الكثيف الذي ملا المكان ، خرج الى الممر الخارجي ليكمل حرق ما بقي منها ، نفث أنفاس دخانه عاليًا ليصعد الى السماء بلا عودة ، كأنه يودع روحه معها .
ومالبث ان سمع نداء السكرتيرة بصوتها الجهوري : لقد حان دورك سيدي ، تفضل .
أحس بثقل ساقيه ، وخفقان قلبه يُسمع من مسافة ليست بقصيرة ، يبست شفتاه مع رعشة يديه اللتين ما عادتا تتحملان رفع الأوراق من المنضدة المجاورة لمقعده .
- هل أستطيع المساعدة أخي ؟ بادره أحد المراجعين بعد ان شعر بتعبه وحالته الصحية المزرية .
لم يجبه ، وتقدم الى باب الطبيب بخطوات ثقيلة تحسبها سير سنين ، دخل بدون سلام وارتمى بثقل جسمه على كرسي قبالة الطبيب .
- هون عليك يا عزيزي ، ما هي حالتك ؟
ناوله التقارير وصور الأشعة بدون ان ينبس بكلمة ، تفحصها جيدًا ، ونظر إليه مستغربًا : مما تشكو ؟ وكم مضى على هذه الحالة ؟
- إنها لزوجتي وليست لي ، أرجوك ماذا عليّ ان أفعل ؟
وبدأ انفعاله يزداد مع نظرات شاخصة تشبه الاغماء .
- اهدأ.. اهدأ .. انها حالة خاصة وصعبة ، كان عليك احضارها معك لنشخص المرض جيدًا .
- لكنها معي في الخارج ، أردت ان لا تسمع أو تعلم بمرضها ، يكفي ما عانته سابقًا ، لقد تحملت كثيرًا ، انها بساق واحدة ، وأخشى عليها من فقدان الأخرى ، أو فقدان حياتها .
قاطعه بهدوء وهو يربت على كتفه : الأعمار بيد الله ، كن مؤمنًا ، لكل مرض علاج ، ليكن معلومًا لك ان التشخيص نصف العلاج ، وهذا واجبي ورسالتي في الحياة .
- دكتور .. بدأ المرض يزحف على الساق الثانية ، رغم ما عانته سابقًا فهي أمًا لثلاثة أطفال أصرت على إنجابهم ليكونوا ذكرى منها بعد رحيلها .
تعاطف الطبيب كثيرًا معه ، ناوله منديلًا ليمسح دموعه التي نزلت بغزارة لتبلل لحيته الكثة التي لم يحلقها منذ أسابيع.
- حسنًا ، لنترك الحزن جانبًا ، أدخل زوجتك لأشخص حالتها .
قاطعه : لكن أرجوك لا تكشف لها حقيقة ما تعاني .
خرج ليصطحب زوجته التي جلست على كرسيها المتحرك بكل هدوء ، والابتسامة تعلو محياها ، عندما نظر إليها الطبيب وتفحص قدمها ، سكت برهة متأملا الأشعة والتقارير بدقة تنم عن ذكاء وفطنة .
- من قال لكم أن الورم قد وصل الساق الثانية ؟!
- هذا ما عرفته من المختبر .
- غير صحيح ، إنها سليمة ، وهذا الورم نتيجة التهاب سببه الجلوس المفرط على الكرسي المتحرك ، لتنهض وتمشي على عكازة أو قدم صناعية .
حركت كرسيها بقوة يديها ، لتقترب من الطبيب ، مستجمعة شجاعتها وبرودة أعصابها : أعلم جيدًا انك تحاول طمأنتي ورفع معنوياتي ، شعور قاسٍ أن يعاني المرء من نقص في جسمه يمنعه من ممارسة دوره في الحياة ، رغم اني قدمت الكثير لعائلتي وزرعت فيهم روح المحبة والسعادة ، إلا أنه كان على حساب صحتي التي فقدتها مبكرًا ، لقد مللت العيش ، وأنا مستعدة للرحيل ، أخبرني كم بقي لي من الوقت ؟
- الواضح من كلامك انك أمرأة قوية ذات إرادة وعزيمة نادرة ، عندما تحبين عائلتك فهذا دليل على حبك للحياة .
سيدتي أنا صادق معك ، انت بخير وتستطيعين ان تنجبي الابن الرابع !!
لكن عليك تسميته على اسمي ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نـــوافــير للآداب والثــقافة ... رئيس مجلس الأدارة الاستاذ الشاعر علاء الدين الحمداني

أهلاً وسهلاً بك أنت الزائر رقم

النصوص الأكثر قراءة اليوم

اخر المشاركات على موقعنا

بائعة البخور // بفلم الكاتبة // مها حيدر

بحث هذه المدونة الإلكترونية


مجلة نوافير للثقافة والآداب 📰 صاحب الإمتياز الاستاذ الشاعر والكاتب الأديب علاء الدين الحمداني شاعر وأديب / عضو اتحاد الصحفيين/ عضو وكالة انباء ابابيل الدولية/نائب الرئيس التنفيذي لمؤسسة قلم

أحدث التعليقات

Translate

تابعنا على فيسبوك

من نحن

نـــوافــير للآداب والثــقافة ... مجلة عراقية عربية 📰 رئيس مجلس الأدارة الاستاذ الشاعر علاء الدين الحمداني
جميع الحقوق محفوظة لدى مجلة نوافير الإليكترونية ©2018

تنوية

المواضيع والتعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي ادارة المـجلة ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك