اللازمة الشعرية في بنية النص الشعري // قراءة في نص الشاعر // محمود صلاح الدين// معلقة كتبت على حطام الوطن// بقلم الاستاذ // حسين عجيل الساعدي

اللازمة الشعرية

في بنية النص الشعري

قراءة في نص الشاعر "محمود صلاح الدين"

(معلقة كتبت على حطام الوطن)

بقلم / حسين عجيل الساعدي

قيل:(الناس أسرى بأفكارهم ومعتقداتهم)

النص//

عندما ولدت

أخبروني

أن السماء لي

والأرض لي

وهم كاذبون

وأخبروني

أن لي بطاقة وطنية

ورغيفاً من الخبز

ونهران

وهم كاذبون

وأن لي مستقبلا جميلا

وأن لي ما ليس لأحد

على هذه الأرض

وهم كاذبون

وأن حبيبتي

سوف تنتظرني في محطة القطار

تحمل بين يديها

باقة ورد

وهم كاذبون

وأن لي وطنا

وأنا المواطن

وأنا من يُقتل على الهوية

وهم كاذبون

وإن مدينتي

من رسم حدودها

أحد الفلاسفة العظماء

يسمى بأفلاطون

وهم كاذبون

وأن لي جارا يحفظ مالي

وصديقا

لم يمر بي

وأخباره أسمعها

من الآخرين

وهم كاذبون

وأن لي تاريخا

يزدحم بالأبطال

وقصص البطولة

وهم كاذبون

وأننا أحباب الله

وإن من يختلف معنا

مجموعة من الزنادقة

وهم كاذبون

وأن لي عدوا

وهو من ينام في فراشه

من أخبرني عنهم

وهم كاذبون

وإن لي قدسا

وأقداسا ومقدسين

لم يرتدوا يوماَ ما التيجان

وأنا لي بيتا قد يجمعنا

وهم كاذبون

وأن لي

الحق في الاعتراض

لأكون بعد هذا مقطوع اللسان

وهم كاذبون

وأنا لي ذاكرة

قد تملأ بالذكريات الجميلة

لكنها تغرق اليوم في بحر الأحزان

وهم كاذبون

وأنهم يصدقون

في كل ما قالوا لي

وإنهم أنبياء هذا العصر

وقد صلبوا كل الأنبياء

الذين قرأت عنهم

في الأسفار القديمة

وهم كاذبون

ليخبروني

أن للبيت بابا

يقف عليه بعض الحرس

ولكن اللصوص

امتلكوا مفتاح المنزل

وهم كاذبون

أخبروني

أن الشهداء في الجنة

ليرددوا دَوْمًا

(أن القاتل والمقتول في جهنم)

وهم كاذبون

وما زالوا على هذا

وقد صدقت كلمات اليوم

وهم كاذبون

القراءة//

اهتمت الدراسات البحثية المعاصر بأسلوب التكرار وأشكاله في الشعر العربي المعاصر، فهو أسلوب تعبيري يعمق معنى النص ودلالته، حتى عد عند بعض النقاد والباحثين من أهم الأدوات الجمالية والأسلوبية والفنية في تشكيل النص الشعري الحداثي، وأعان الشاعر في إثراء دلالات النص وفهمه وبيان إبعاده الجمالية والفنية لدى المتلقي، فالتكرار يتمتع بجمالية فنية وثراء دلالي في عملية البناء الفني للنص، ويجسد الانفعالات النفسية، والحالة الشعورية التي تتملك الشاعر لحظة كتابة النص الشعري. فالأثر النفسي من أبرز العوامل المسببة للتكرار، والأكثر ظهوراً في النصوص الشعرية، الذي يعد بمثابة المرآة العاكسة للحالة النفسية لدى الشاعر وما يعتري وجدانه، والكاشف عن أفكاره بغية إيصالها للمتلقي. فالتكرار يأتي تبعاً لصورته الشكلية التي جاء بها، فهو يحمل دلالاته ضمن السياق الشعري، كقيمة جمالية تجعل النص أكثر فهماً وترابطاً.

يتخذ التكرار عند شعراء الحداثة أشكالاً متعددة (التكرار الاستهلالي، التكرار اللزومي، التكرار الختامي). ويعد (التكرار اللزومي) أكثر الأشكال استخداماً لدى الشعراء. ولجوء الشعراء إلى هذا الأسلوب من أجل إبراز قيمة النص الجمالية والإيقاعية والدلالية. إن الأسلوب اللزومي لا ينجح في النص المؤلف من مقطع واحد بل في النص الذي يحتوي على عدة مقاطع، فهو يأتي في نهاية كل مقطع، فيظهر النص وكأنه سلسلة متصلة.

العنوان//

لعل أول لمحة إشارية تجذب أنتباه المتلقي هي (العنوان) الذي يلخص فكرة النص المركزية، بقصد التأثير في رأي المتلقي. فهو يمتلك خصوصية جمالية في تعريف النص الشعري. و (يعمل كنوع من الإطار الذي يحيط اللوحة مع أنه مصنوع من الكلمات... تجعله يرسم حدود هذا النص ويؤثر في شكله)، "نريمان الماضي، العنوان في شعر عبد القادر الجنابي، ص27".

لقد اولت الدراسات السيميائية العنوان أهمية استثنائية، كونه يمثل بوابة النص، ومعبراً للولوج الى أعماق النص، بغية استنطاقه وتأويله، ومدخلاً للمتلقي إلى النص قبل المباشرة في قراءته، فهو (مفتاح إجرائي للدخول الى عالم النص وفك مغاليقه وفهم دلالته)، "الدكتور حمدي النورج، في تحليل الخطاب، رؤية منهجية، ص 147". عبر استكناه البنى الدلالية والرمزية التي فيه. إذاً هو (مفتاح تقني يجس به نبض النص).

شكل عنوان النص (معلقة كتبت على حطام الوطن) علامة سيميائية، بوصفه مجموعة دلالات أتخذها الشاعر معبراً للدخول الى أعماق النص، فهو يكشف عن انفعالاته وخلجاته النفسية. يتحدث "جيرار جنيت" في كتابه (معمار النص) عن العنوان باعتباره نصاً صغيراً يختزل ويختصر النص الكبير، وموضعاً للقراءة والتأويل كالنص نفسه، وليس مجرد غرضاً للأتصال.

الجزئية الأولى في العنوان (المعلقة)، التي هي (لغةً من العلق، اسم فاعل من علَّقَ الشيء، وجذرها علق وجذعها معلق، ومشتق من الفعل علَّقَ). أما اصطلاحاً؛ المعلقات هي قصائد تعد عند العرب من المطولات، وإنها سُميت بالمعلقات، لأسباب عدة ومنها (لعلوقها بأذهان الناس). لنضع جملة (لعلوقها بأذهان الناس)، مدخلاً الى بواطن النص.

أما الجزئية الأخرى في العنوان هي (الوطن) عندما يتحول إلى حطام بسبب الحروب والقتل والتشريد والتنكيل والسياسات العبثية، فلا يحمل من حطامه إلا (ما بقي من الشّيء بعد ما تكسَّر وتحطَّم)، وهناك من يريد غلق منافذ كوة الحطام، حتى لا نرى حجم هذا الحطام، الذي لم يبقى منه إلا رمزية وطن، بعد أن ألغيت فيه كينونة الإنسان. فحضور الوطن في النص جاء معبراً عما يخالج وجدان وذات وهموم الشاعر.

نسعى في هذه القراءة الى تتبع الدلالة السيميائية للتكرار في نص الشاعر "محمود صلاح الدين". ابتدأً من اللازمة الشعرية، التي هي من الظواهر الأسلوبية في نص الشاعر "محمود صلاح الدين" التي ترفع من قيمة النص الفنية والدلالية وتساهم في تحديد شكل النص الخارجي.

يحرص الشاعر من خلال استخدام تقنية التكرار اللزومي على إخراج النص الشعري بمنظار رؤيوي ونفسي، يترك أثر انفعالي في نفس المتلقي، يعينه في الكشف عن القصد الذي يريد أن يصل إليه الشاعر.

تعرف الشاعرة "نازك الملائكة" التكرار بإنه (الحاح على جهة هامة من العبارة يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسية قيمة)، "نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر،ص2".

تتألف بنية النص من (سبعة عشر) مقطع، وكل مقطع يتشكل من جمل شعرية وصور وصفية حسية، يكرر الشاعر في مواضع معلومة من النص، جملة (وهم كاذبون)، في شكل متتابع في نهاية المقاطع الشعرية الـ(سبعة عشر) المتتالية، ومن هذا التكرار تمثل الجملة الشعرية (وهم كاذبون) ما يعرف ب(اللازمة الشعرية)، التي تعد من أهم التكرارات التي لجأ إليها الشعراء المعاصرون، لأنها تحرك النسق الشعري، وتثير المتلقي، فهي ذات إيقاع مموسق، تقوم (على انتخاب سطر شعري أو جملة شعرية، تتشكل بمستوييها الإيقاعي والدلالي محوراً أساسياً ومركزيـاً من محـــاور القصيدة)، "محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، ص 199".

فاللازمة الشعرية تعبير عن ظاهرة نفسية وسمة أسلوبية تكون في صميم الرؤية النصية، وأداة جمالية تساعد الشاعر على ربط أجزاء النص وتماسكه، ووضعها عند نهاية كل مقطع من أجل لفت أنتباه المتلقي وأثارته، فتكون مرتكزاً لكل ما ينسج من النص، وفي كل مقطع يبتدىء الشاعر حالة شعرية جديدة، تبدو مفتاحاً لبيان وفهم الهاجس المهيمن على نفسية الشاعر.

إن إتقان الشاعر للازمة الشعرية وتوظيفها في النص تمثل حيوية النص، وقدرتها إيقاعياً ودلالياً. فتكرارها يعكس الأهمية التي يوليها الشاعر لهذه اللازمة باعتبارها مفتاحاً لفهم المضمون الذي يتوخاه المتلقي في النص، ومن خلالها يقوي الشاعر الصورة الشعرية. وتعمل هذه اللازمة (على ربط أجزاء القصيدة وتماسكها ضمن دائرة إيقاعية واحدة، وكأنها قالب فني متكامل في نسق شعري متناسق، تجعل القاريء لها يحس بأنها وحدة بنائية واحدة ووحدة موسيقية ذات إيقاع واحد)، "مجموعة مؤلفين، ظاهرة التكرار في شعر ابي القاسم الشابي".

إن تكرار اللازمة الشعرية في النص يعد من أهم التكرارات التي تقوم (على انتخاب سطر شعري أو جملة شعرية، تتشكل بمستوييها الإيقاعي والدلالي محوراً أساسياً ومركزيـاً من محـــاور القصيدة)، "محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، ص 199".

فاللازمة الشعرية هي جملة شعرية مؤثرة في معناها ومبناها، يتكىء عليها الشاعر، حين يكررها في صورة شعرية مكثفة، تستقطب المتلقي، فيشعر بأهمية هذه الجملة في كلام الشاعر.

لم يقتصر التكرار في نص الشاعر "محمود صلاح الدين" على الجملة الشعرية (هم كاذبون)، فقد جاء على أشكال متنوعة، (أخبروني) 4 مرات، (وان لي) 9 مرات، (إن) 7 مرات. هذه المفردات المكررة تحمل في ثناياها دلالات نفسية وانفعالية.

يقول الناقد المغربي "محمد مفتاح"

(إننا إذا ما وجدنا نصاً ولم نستطع تحديد هويته بادئ الأمر، فإن مرشدنا إلى تلك الهوية هو المعجم الخاص به)، ونص الشاعر "محمود صلاح الدين" نصاً مزدحماً بالأفكار، ذات لغة مناسبة للسياق الشعري في النص. ومن الممكن أن نضع هذا النص في دائرة الضوء بمعزل عما وراء النص (الشاعر)، وذلك بمقدور النص الإجابة عن تساؤلات المتلقي.

النص له أهمية دلالية يعبر فيه الشاعر عن تجربة مستمدة من معاناة (وطن)، انعكست على معاناته، في زمن أبرز سماته الانكسارات والتفكك والتشظي التي تجتاحه، فهي ترجمة لما يحمله الإنسان من أفكار لها الأثر الكبير في سلوكه ومواقفه تجاه الأحداث.

لو عدنا الى محاور النص سوف نلاحظ أن النص لا يغادر ما سرده الشاعر من أوهام عالقة في العقل الجمعي، فمنذُ نشئته وهو محاط بمجموعة من الأكاذيب والأوهام، تراهم يتحدثون عن الصدق، ويزعمون أنهم صادقون، وهم كاذبون، وهؤلاء عندهم المقدرة على قراءة ما في أذهان الآخرين، مما يمنحهم الفرصة أن ينجحوا في كذبهم، للحصول على مبتغاهم.

فالكذب يُعرف بأنه القول المخالف لحقيقة الأمر والواقع، ويصفه أستاذ علم النفس الامريكي "روبرت فيلدمان" بأنه (تكتيك اجتماعي فعال للغاية)، يكون أما بتزييف الحقائق أو خلق روايات وأحداث، تسوق الوهم الى العقل الجمعي.

النص يحمل دلالات سيميائية تدور حول شيئاً ليس حقيقياً بل منفصلاً عن الحقيقة، حين ندخل الى نسيج النص ونتجول عبر تعرجاته سوف نكشف عن سمة دلالية يريد الشاعر إيصالها الى المتلقي، وهي الابتعاد عن عالم الواقع بكل ما يحمله من أوهام، وكشف تناقضاته الدالة عليه. فالشاعر يحمل رؤية يخوض بها صراعاً مع واقع مؤلم رافض له، واقع يفتقر إلى العقل الناقد الذي يحلل هذه الأوهام والأكاذيب الساكنة في مخيلته حتى يحرر نفسه منها.

الوهم يجعل من الإنسان أن يعيش، على أساس كذبة كبرى ليس لها أصل حقيقي، ففي كل يوم تظهر لنا نظريات يتم تسويقها على أساس فكري أو علمي أو عقائدي، يقول عالـم الأجتماع الفرنسي "غوستاف لوبون" في كتابه (روح الأجتماع)، إن بث أفكار في عقول ونفوس الناس يجري بثلاث طرق رئيسة: (التوكيد) على فكرة معينة، و(التكرار) الذي له تأثير أكبر في عقولهم، و(العدوى)، وهي الأصل في انتشار أفكارهم ومعتقداتهم، والذي يبلغ تأثيرها إلى حد أنه يتعدى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثير في الحوادث، على حد قول "غوستاف لوبون". لإن في ظل هذه الأوهام تكتسب النخب السياسية شرعية وجودها من خلال الترويج للمكونات المجتمعية وليس للمواطنة، وتبدو أي محاولة للوقوف أمام تلك الأوهام، مهمة صعبة وعسيرة، في ظل مجتمع تهيمن عليه ثقافة المقدس وثوابت العرف الاجتماعي. فيقع المجتمع ضحية للاستلاب الفكري، المسيطر على البنى العقلية للإنسان، وتسويق الوهم له، حتى لو برزت أدلة نقلية وعقلية تنفي هذا الوهم.

يعرف الوهم هو (كل تفكير أو تخيل لا يوجد له أصل أو دليل ومع ذلك يقنع صاحبه بوجوده)، فهو رؤية تسعى إلى احتواء إشكاليات الواقع وتجاوز أفقه الضيق والهروب به عبر الأوهام، لإن (الإنسان إذا توهم أمراً من الأمور، دفعه هذا الوهم لأتخاذ مواقف وسلوك يتفق نصاً وروحاً مع ما يمليه هذا الوهم). ففي كل مقطع تتمحور حوله بؤرة مركزية وهي اللازمة شعرية (وهم كاذبون) مرتكز لكل ما في النص، من معنى عام. هذه

الجملة لها معانيها الدلالية المتنوعة في كل مقطع، والتي تساعد على تحريك الصورة الشعرية في النص وابراز جانبه التاثيري. لقد أراد الشاعر في نصه أن يلفت انتباه وإثارة المتلقي، وأن يفند جميع ما علق في أذهان الناس من أوهام.