العودة من دمشق لاحتفالية الفياض في ذكرى وفاة السياب .
شاعرٌ يُؤرّثُ الحطبَ (نقشُ الوقتِ الأخيرِ لشاعرٍ لم يمتْ أبداً)
د . نجاح إبراهيم - سوريا
شاعرٌ يُؤرّثُ الحطبَ
(نقشُ الوقتِ الأخيرِ
لشاعرٍ لم يمتْ أبداً)
إنْ قيّضَ لكَ أن تقرأ لشاعرٍ كبير ، فإنك ترتعشُ أمام هيبة حرفه ،وفيوض قصيدته. فكيف لكَ إنْ أردتَ الكتابة عنه؟!
كيف لارتعاشك أن يمنحَ حبرك امتداداً على البياض؟!
أنا في حيرة ؟
كيف أبدأ ؟!
مدىً ، ومفرداتٌ تتقافزُ ، مشاهدَ زاخرة بالحركة، بُعدٌ بصريٌّ ونفسيٌّ يترامح، لغةٌ وعمقٌ وتخييل، أزمنة تتغاصن كالرّوح مع الجمال، مغزى دلالي ، وفوران في الرّؤى..
ناهيك عن وجع عااال كقامة السّياب،فمجّد حدّ التقديس.
فيا أيّها الحبر! قل لي كيف أتجاوزُ البداية، وكثيراً ما تربكني البدايات؟
(السيابُ يموتُ غدا) عنوان قصيدة، يشكّلُ ثاني الارباكات، لأنه يدفع بحقيقة دلالية، تشرئبُ بادئ ذي بدء أمام عيوننا، فالسيابُ يموت غداً، هل لأنّ الأمس ما كان ليحقق شيئاً سوى الموت، أم في العنوان ولادة تنبلجُ من موت ،حيث يؤرثُ الشاعر عبد الجبار الفياض، ناراً من حطب؟
أم تراه يرى الغد كاليوم والأمس؛ لا جديد سوى موت مكرور وبؤس وشقاء؟!
الحقيقة أقول : ما أن قرأتُ قصيدة "الفياض" حتى استفزّني عنوانها، أخرجَ ما ينطوي عليه المدفون والغافي فيّ، أيقظه لينبئَ أنّ ثمّة مبدعاً يدعى السياب ، له في القلب موضع، وفي الذاكرة موضع. تناولته بدراسة مستفيضة في كتابي" أصابع السرطان" وبعد قراءتي لقصيدة "الفياض"، وجدتني أنتضي عشقي للشاعر الذي عشتُ معه وقتاً في مدار ابداعاته التي تشكل دورانه الأخير من الحياة، والآن يعود دائراً من جديد في جهاتي وورقي وحبري وأصابعي، لأعتلي غيمه ، أمطرُ قصيدة تخالفُ /السيّاب يموت غدا/ لأجعله سياباً يشقُّ قميصَ الولادة. لأنه إذا حضر في نصّ ما، فإنّه يولد من جديد.
على الأقل في أقمصتي!؟
إنّ قصيدة "الفياض" هي المحرّضة على تشكل قصيدتي ،إذ لم أستطع الانعتاق منها، سُجنتُ بين خيوط فيوضها، وأنا الرّابحة الأكيدة لاريب، وكذا القارئ لا يخرج منها خاسراً أبدأ، وإنّما سيكون مثقلاً بلغة مشحونة بوهجها، محلقاً فوق جناحيّ صورة باهرة، فيها أنقٌ يجعله يمضي معه بقدرتهِ التحفيزية ، مرتقياً مصاف الخلق والاتقان الفنيّ.
بادئَ الأمر نجد " الفياض" قد تماهى مع آلام السياب، لدرجة أنه أعاد النقشَ على شاهدة قبره ، فاستمدّ الكلمات المنقوشة من آلامٍ لقيها الأخير من جراحاته المتعاقبة ، ألقابه الخاوية التي ما أنقذته من عوزٍ أحاط به سواراً بمعصم.
قصيدة " السيّاب يموتُ غدا نقشٌ على شاهدة" ، للشاعر عبد الجبار الفياض، الذي تشرّب قصائد السياب حتى الثمالة، فتغلغلت كلماتها فيه حتى أصابه الدّوار، وكالفارس العنيد الذي رفض الاستسلام ،ينتفض ليخرج ما في داخله من تفاعل ، فتنفتح أبوابُ الكون بتفجير المخبوء.
من خلال القصيدة، تتعرف إلى الوقت الأخير من حياة شاعر مبدع ، رحل وبقي ما يدلُّ عليه غير إبداعه، ثمّة شيء آخر لا يخبو.
فما الذي كان يحمله هذا السيزيفي، الذي ارتقى أعلى قمته، ثم ارتأى الشاعر "الفياض" أن يرمي به دفعة واحدة في جوف الخليج؟!
إنها الآلام التي مضت كظلّ السياب معه في دروب الحياة، وجيوبه الخاوية من أيّ قرش يستطيع به أن يقاوم جوعاً ،وألقابه التي لم تفده في شيء ، عملة غير معترف بها ، تشبه عملة أهل الكهف التي مضى عليها قرون ، فردّت إليهم.
كذا كان السياب!
حين أرادَ أن يشربَ كأسَ الحياة بزهوّ وفرح واقبال، وجدها فارغة! فشرب هواءها والتزم صمتاً ونام على غُصّة.
الشاعر الفياض ، يتابع سرد الوقت الأخير من حياة السّياب. يضعنا وجهاُ لوجه أمام عودته الأخيرة إلى البصرة ، عارياً من كلّ شيء، ليضع رأسه الثقيل من الهمّ والغمّ والموت، على ذراع العلامة البصري ، تاركاً الخليل يعاتبه بقبلٍ.
تُرى علام العتاب؟ وهل من عتاب بعد؟ هل ينقصه؟!
عاد- والحياة كسرب يمام حين يمرُّ- ليرى الشناشيل المنسوجة من خيوط شمس مغايرة، شمس الجنوب العراقي، وهي تنقشُ السمرة فوق جلود الفقراء الحفاة- وما كانت شمساً عادية، ولن تكون- ولا ينسى الفياض أن يذكرنا بابنة الجلبي ، لطالما ذكر شناشيلها وهي تشرب الزّمن وتنتظر..
بيد أن هذا الانتظار غدا عارياً من الرّصيف والظلّ، يذوب في ظلام اليأس..
ونرحلُ مع النّقش، نصغي إلى السياب ، وهو يتوسل نهر جيكور لينام حتى فجرٍ لا يربكه، وحين يكلمه ، لم تكن غايته أن يوقظه من غفوته الهانئة تحت ظلال أشجار النخيل ، اللواتي بقين على الرّغم من سني الظلام صامدات.
القصيدة ملحمة في الألم، والألم يتناسلُ ألماً عند السياب، وهذا ما جعله متوقداً في المشاعر وفي الموهبة، ولعلّ قصيدة الشاعر الفياض تمدّنا ببعضه ، وتجعلنا نستذكر على الفور ما قاله السيابُ ذات قصيدة:
" نزعٌ ولا موت
نطقٌ ولا صوت
طلقٌ ولا ميلاد
من يصلبُ الشّاعر في بغداد
من يشتري كفيه أو مقلتيه.."[1]
إنها بحقّ نزعٌ مستديم ، ومما يؤكده، أنّ الفياض يصعّد من دخول الأخوة إلى البيت ، يأكلون على بساطه، وينبشون الذكريات بسكين صدئة ، والسياب ينظر إليهم محتضراً ، بينما هم يغلفون سكرات الموت بورق الزينة.
إن سكين الألم الحادة وليست الصدئة ،هي بيد الشاعر الفياض ، الذي لايني يدفعُ بها في أعماقنا ليشدّنا إلى وجع أكبر، يبتكره هنا وهناك في قصيدته؛ فهو من البداية يجعلنا نمشي خطوة خطوة معه، يخصّنا بهذا الكمّ منه، مؤكداً انبثاقه من إحساس نبيل ومرهف ، مضيفاً إليه الخيال واطلالات الجمال في الوصف:
" ألقى ما أثقله سفطاً في جوف الخليج
آلامه..
جيوبه الخاوية
ألقاب لم تأته بشروى نقير (الشاعر كتبها ألقاباً!!)
عملة ملغاة
رُدّت بوجهه /شربها كأساً فارغة.."
كذا يُخرج الشاعر الألم مبتلاً بتلاوين المخيلة الجامحة، صورة جميلة على الرّغم من قتامتها في الواقع، لكن الشاعر سكبها زاهية، طالعة من شروشٍ بهية كما الشناشيل الملونة /الموشاة بخيوط شمس سومرية/ تنقش السمرة على جلود الحفاة/
وتغوصُ السّكين إلى أعمق، ليدخلنا الفياض بمرحلة الدفن ، حيث سيارة صغيرة مستأجرة ، سائق وصديقان وحفار قبور يغلبه النعاس ، لنتأثر أيّما تأثر، نرعفُ ألماً أمام مشهد جنازة بائسة لشاعر كبير، وهذا ما حدث تماماً لعلامة ذي مكانة في سورية يدعى خير الدين الأسدي.
وليخفف الفياض من حجم الأسى ، وببراعة القاتل الرؤوف، يخبرنا أنه ربما سيزارُ هذا الشاعر مستقبلاً ، فتحمل مدرسة ما اسمه ،وربّما.. حتى نكون أمامَ احتمالاتِ أمل قابلة للتشكك، يضعُ نقاطاً في البياض ، يترك مساحة مجلببة بالصمت، يشبه سكون الموت، حدّاً فاصلاً بين الخلود والانطفاء، وهذا ما ذكره الفياض عن لسان السياب وهو يصف المنزل كمكان معتم :
" مازال منزلنا الكبير يغرقُ بالظلام
أرى النوافذ مغلقة
لكنما الأبواب مشرعة
بلا أقفال.."
ومقطع قصيدته هذا ليس بعيداً عن مقطع قصيدة السياب التي يقول فيه:
"البابُ ما قرعته غير الرّيح
وكذلك:" الغرفة موصدة الباب/ والصّمت عميق/ وستائر شباكي مرخاة / ربّ طريق."
الشاعر الفياض بحنكته الإبداعية ، لابدّ أن يشقّ صمت البياض ليفتح كوة من أمل يجيء ، لابدّ من شروق ، هكذا أنطق شاعره المتألم الحزين:" فيشرق من محاق/ أنّ أرضي ولود."
تناسل وخصب لتستمر الحياة، الأرض سيضاجعها المطر ذات يوم، والشيطان-الألم، الظلام، العفن، البؤس، سيزولون عندما يأتي المخاض..
إنّ القصيدة وإنْ بدت للوهلة الأولى محاكاة لحياة مؤلمة لشاعر عانى الأمرّين ، وبدت مرآة لحقيقة واقعية ، بيد أنها تفضي إلى حلم الإنسان بالانفراج ، إذ يتأتى من اسقاط تخييلي لرغباته، و هذا ما قام به الفياض حين أباح لقصيدته أن ترتفع عن الواقع وتمازج بينه وبين الخيال، الأرض والجنة، الموت والحياة، نور وظلام، موت وولادة..
كذا تتفجر المتناقضات، ثمّ تتحد من خلال تركيب يشدّ المتلقي ، وجدانه، قلبه، قبل عينيه.
" السّياب يموتُ غداً " قصيدة طويلة ، وهي عادة الفياض في جلّ قصائده ، والمسوغ الحتمي لها، كونها تحملُ توظيفاً كبيراً، من تاريخ وحضارة ، وقرآن ،وأسطورة ، فذكر ديموزي، عشتار، بروميثيوس، ورموز دينية مثل: أيوب الصّابر ، سليمان النبي، وفكرية مثل الحسن البصري ، والخليل الفراهيدي، إلى رموز أدبية فارتر وهمنغواي ، محسن السعدون و....
هذا الحشد المعرفي في قصيدة واحدة له دلالة ، إنه يشير بلا أدنى شكّ إلى ينبوع ثرّ يُدعى " الفياض" يشحذ فيها قدرات فنية مائزة ليأتي بنصّ مائز ، مُزدهٍ، لائباً في الأبجدية لينتقي مفرداتٍ معبرةً ، واضحة ، وصادقة عن ألم يعتصره ، مما انتاب الشاعر السياب من قبل.
هذا التنوع لا يربك " الفياض" في اعطاء النصّ صوراً داهشة ، راقصة ، متفردة، بل يضفي عليه جمالاً فوق جمال:
" رصاصتي/ لم أزل أحشو بها ثقباً في رئتي/ أقف متوسلاً بأنفاسي."
كما أنه يمازج بين الشناشيل التي طبعت على عينيّ السياب ، وبين امتشاقها من جبهة ديموزي وأثداء عشتار .
في هذه الصور المركبة وأنساق الشاعر الآتية لتؤدي دلالة عميقة في اتيان معنى أكيد، وذلك من خلال لغة الشاعر الواضحة ، السلسة العذبة وجعلها ضمن سرد جميل ومبهر:
" ما زالت ابنة الشلبي
تشربُ الزّمنَ بزجاجة كولا والمطر
تضعُ كراسها على شرفة انتظار
غادره الرّصيف
الظلّ.."
ومما هو لافت في القصيدة أنّ الشاعر يستندُ فيها على معرفته بالآخر من خلال ثقافته الموسوعية، وتجربته الواسعة ، لهذا نراه يحاورُ الطرف الآخر، يميطُ اللثامَ عن جراحه وآلامه ، لتبدو كأنما هي منه وفيه . ثمّ يخرج ما في جعبته من أمل أخضر اللون، وهواجس ورغبة في الحياة ، وإن كانت تحمل سرداً موجعاً وألماً يبدأ من المهد إلى اللحد، بيد أنّ مخاض الولادة يشي بها:
" فيشرق من محاق
أن أرضي ولود
سيضاجعها المطرُ ذات يوم.."
ولعلّ ما يشدّه أكثر ذكر المكان، فالقصيدة لا تخلو منه، ثمّة حضور كبير ولافت له ، يبدأ من العتبة الأولى فيها، العنوان، حيث شاهدة على قبر السياب ، تنسلُّ منها كلّ حروف القصيدة إلى اختراق التاريخ بأمكنته ، إلى أرض سيضاجعها المطر مستقبلاً.. لقد استطاع الشاعر توظيفه لدرجة التماهي بين المكان والبُعد النفسي للقصيدة ،ووجوده يغاصنُ أوردتها ؛ فهذا جيكور لا يذكر بعيداً عن السياب، وأرض سومر ، وعشار الشريان الذي يوهب المكان حياة ، ونافذة ابنة الشلبي وشناشيلها، والمنزل الكبير، بيت السياب الغارق بالظلام ، وسوق الهنود الذي ينضح بالبهار، وجوف الخليج والدّهاليز المعتمة تحت ساعة السورين ، والشوارع التي ما عاد المطر يتجوّل فيها منفرداً.
جاء الشاعر بكلّ هذه الأمكنة ، ليضع لكلٍّ دلالته من حيث التعبير عن ألم وأمل السياب، فالمكان تمحور حول مسافات لا تغيب عن خطو الشاعر ولا نبضه، ولا حرفه ..وكذا نلمح الزّمن لا يتوقف في القصيدة، فإن مات السياب فثمة نهر يتدفق، وإن كانت النوافذ مغلقة بيد أنّ الأبواب مشرعة ليشرق ضوء ، وإن كان القبر الذي أخذ حيزاً من الأرض ساكناً ، فإنّ الأرض ولود سيضاجعها المطر وستلد .فالزّمن كما المكان رافل في القصيدة ، يهبُ الضوء له ، يختصُّ بالنفس وما يتراءى لها.
الشاعرُ الفياض ، بخبرته الإبداعية ، لم يغفل هذين العنصرين الهامين في قصيدته، لأنهما يضفيان عليها كثيراً من الحركة المتمثلة بالحياة. ولعلّ السياب ذاته لم يغفلهما البتة ، ولهذا ظلت قصائده تترامح بالنبض.
باختصار وإن كنتُ لم أستطع الاختصار!
أنا أمام شاعر حقيقي ، لأنَّ ما يبدع يحفر في العمق، ويشعل مسام النسغ ، يخترق القلبَ دون مقدمات ، شاعر يؤرّث لك النار بيده كي تعدّ النجوم والأقمار ، وتروح في ولهٍ لشجر المدى دون أن تسهو فتحترق، وكذا يده لا يمسها الاحتراق؛ ألم يقل جلال الدين الرومي: " إنّ الشاعر الحقيقي حتى لو وضع يده في النار ، فإنها لا تحترق ."
كذا فعل ويفعلُ الشاعر عبد الجبار الفياض، أوقد قصيدته بحطب الألم الموات ،فتأججت نارٌ،أضاءت السمت، فرحت أقطفُ من سمائها الأقمار، أثمل روحي بها.
نجاح إبراهيم
1- من قصيدة العودة إلى جيكور – الأعمال الكاملة للسياب- ص424
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق