الوجع الدّفين
جلس معلّم الصّف إلى مكتبه بعد أن كتب موضوع الحصّة ، مطالبا تلاميذته بالتّعبيرعن مضمونه رسما ، وبينما تلاميدته منشغلون بما طلب منهم جلس هو يتأمّلهم ، وباله مشغول بتصاريف يومه، أو يفكّر في مقبل درسه ،إذ وقعت عيناه عليه.. ذلك التّلميذ الخامل منذ أن وطئت قداماه حرم المؤسسة ، حيث لا يبدي استجابة، ولا يعبه بما يدور حوله .. لاتسمع له حسّا ،ولاترى له حراكا.. كأنّه موات متسرّب بهدوء لايكاد أن يلمح، أو يشدّ إليه نظرا، أو يشعر بوقعه أحد ؛ راح يفكر فيه وقد انشغل به عمّ سواه ، فأراد ان يسبر اغواره، وينبش اسراره علّه يصل إلى أسباب إنطوائه ..ناداه ، وقرّبه إليه ،وقد أظهر له ودا غير مألوف ليطمئن الصّغير ، ويركن وتهدأ روحه الشّاردة ، وحين آنس منه هدوء.. سأله بلطف:
مالي أراك دائما شاردا منزويا لا تبدي استجابة ، ولا تخالط احدا من رفاقك.. متوجسا منهم.. مبتعدا عنهم ، فهل ساءك منهم قول، أو فعل.. أم ترى نفسك دونهم قدرا.. أم انّ دونك ظرف لا تريد له كشفا .
.. أطرق الصّغير ولم ينبس بكلمة، فضمّه المعلّم إليه وأظهر له ودا، واحاطه بفعله ذاك دفء ،وحين استأنس منه طمأنينة ..طلب منه بلطف أن يحكي له سبب قدومه وأهله إلى هذه المدينة .. حينئذا رفع الطّفل بصره ، وقد إمتلأت عيناه دموعا، وخاطب معلمه بصيغة المتحصّر المتوجّع : أهلي.. وأين أهلي !! لقد ماتوا كلهم ..لم يفهم المعلم ، وقد صدم بالجواب المؤ لم القاسي فسأل:
كيف؟
.. سكت الصّغيرة برهة، ثم مدّ يده إلى عينه يمسح دمعة انحدرت على خدّه الغضّ، وتنهّد تنهيدة عميقة ضمّنها كل حصرته، ولوعته ومكنون وجعه ، وأجاب معلّمه عن استفساره بنبرة تخنقها عبرة :
قضى عليهم الارهاب في ليلة حالك ظلامها ، ولم ينجو من المصيبة الاّ أنا وأختي الصّغيرة، لأنّنا كنّا قد انزوينا في ركن قصي بحيث نراهم، ولا يروننا ،وكنّا نشاهد المجزرة، ولا نقدر أن نفعل شيئا خوفا أن يكشف أمرنا ، ونلقى نفس المصير الّذي لقيه أفراد أسرتنا، حتّى الصّراخ؛ كان مكتوما في صدرينا،والرّعب ينال من أوصالنا ، فلم نعد قادرين على الحراك وبقينا متجمّدين في مكاننا القصي ، وعند انجلاء ظلام ليلة مأساتنا ، وانبلاج النّهار.. هرع الجمع إلينا، وقد علموا بمصابنا، فأقاموا بما هم عليه أقدر..دفنوا أهلي في اقرب مقبرة، ونقلوني أنا ، واختي إلى مستقرّ ظرفي إلى حين قدوم أقاربي.. من أخوال وأعمام، والّذين حملونا إلى هنا حيث يسكنون.. لأنّه لم يعد لنا هناك مقام ،وقد فقدنا الوالدين والاخوة ،وليبعدونا عن المكان أملا أن ننسى وقع المصيبة ، وفقد الأحبة، وغدر النّذالة .. اودعني أهلي في هذه المدرسة أوختي في مدرسة اقرب إلى مقر السّكن لتوفّر مقعد، وها أناذا كما ترى.. أعيش على ذكرى فقد الأحبة؛ لا تفارقني صورهم فردا فردا، ولا تفارقني همجية ، ووحشيّة من غدروا بهم زمرا.
امتلأت عينا المعلّم دموعا، وضمّ الصّبي إلى صدره علّه يعوضه بعض الدّفء الّذي فقد، و كله أمل أن يراه يرمم نفسه من جديد ليبني إرث أسرة ذهبت غدرا.
مرت السّنوات تباعا ، وفرق بينهما الزّمن باعا ، وقضى القدر لذاك المعلم إنتفاء عن وضيفته ، ولم يبقى له من زمن عنفوانه إلاّ ماعلق من ذكريات مع تلاميذته وهم كثر اوبعض الخلان الّذين غادر بعضهم، ومازال بعضهم منه قريب له مؤنسا ، وذات رحلة استجمام مع أحدهم استوقفت سيارتهما دورية مرور للدّرك ، لمراقبة عادية .. طلب الدّركي اوراق السيّارة بما فيها رخضة السّياقة، وراح يتفحص السّيارة ، ويلاحظ الأوراق ، وحين وقع بصره على الرّخصة تسمّر في مكانه برهة ، ثم رفع رأسه، ونطر الى صاحبها ،وقد امتلأت مقلتاه دموعا وانكب عليه يقبّل منه رأسا ويضم بدنا .. تعجب الرّجل من فعله، واستفسره عن سبب ودّه، وهو يحاول جاهدا ان يتذكّر وجها له شبيها.. مرّبه في هالك عمره.. لكنّه لم يفلح، وزادت حيرته حين جاءه السّؤال المباغت ..أما عرفتني ياستاذ؟
تمتم المعلم : عذرا بني ؛ خانتني ذاكرتي وأبنائي كثر، فهل رأفت بحالي، ووضحت لي الأمر .
حين ذاك ابتسم الدّركي وقال :ضحية الإرهاب الّذي أبكاك.. اتذكره؟... بفضلك انتقمت ونجحت لأكون اليوم ضابطا بقوّات الأمن السّاهرة على راحة العباد وحفظ أمن البلاد ، حتّى لا يروّع أهلها مرّة أخرى مثلما روّعت أنا ذات مرة.
المختار حميدي -خالد- الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق