———————
قبل أن يمزج السكرَ بقدحِ الشاي الصغير يسند ذراعيه على ( القنفة الخشبية ) لمقهى مضى عليها عدة عقود ، سألني عن سببِ غيابي اجبته من دون ان أنظر إلى وجهه وأنصب بصري في عمقِ سواد الشاي سارحاً قلت :
شاركت في مناسبة سنوية أحد أصدقائي المتوفى
والذهاب إلى وادي اللاعودة بحافلةٍ كنت لا أسافر بها مطلقاً ، لقد ألبسَ الليلُ ثيابَ عينيّ القصيرتين
وراح يجول معي خلف شبابيكِ الحافلة تسأل عن رائحةَ العنبر المتبخرة من حرارةِ الطين المسجى على خريطةِ وطنٍ لأسمٍ طويلٍ لا يغطيه غطاء أو شراشف الأرض ،
وما كان للفجرِ أن يساعدنا في قصّ المسافة حسب رغبتنا بل أسرعَ في تطيّرنا كبذرةٍ طائرةٍ في مهبّ الريحِ إلى بستانٍ لا يحوي نفس صنفه ، تزاحمت خطواتي مع الثكالى وأسيجة الحديث محروسة بالمدافعين عن البقاء ،
لم يأخذ ضياءُ الصبح دوره في تعرفة الشواهد الشاخصة بلا خوف من أشباح الجحيم ، هسيس العظام المتقرحة يدورُ في فضاء حرية التفكير كأن كناية النواقيس عند الصمتِ أيام الآحاد وحنين الرنين يجلس متعبدا لوحده رغم ثرثرة الأصنام في ساعة شيطانية تجثو على أرائك الفراغ ، سحنات أكتاف نابعة من لحاءِ الأصول تروق على حجم العدم ويبقى زحف الأرواح على بطونها كالافاعي عندما يداهمها الطوفان فإن الجحور لها فضاء السلام ، تتكلم صورُ الشواهد بطلاقة عن آخر رصاصة أخترقت سرعة الصرخة لتصل الى مدرج السماءِ دون عناء فالآيات تترجم اللغات والمرمر لغة البرزخ عندما يُطرح عليها السؤال من قبل الحاجب حيث العارضة بين دكتين شاخصتين تميّز الطويل فقط ، من تفرعات الوصولِ الطريق الضيق يمرّ مع المارين إلى صومعةِ الأنين تتغلغل في ثغرات الزمان تهويةٌ تسامرُ الرفات ،
ألتفتُ هذه اللحظة لتأكد من وجوده على مقعده ،
تابعت قولي : في بالي أن أقترح على بوابةِ المقبرة ،
من هنا يبدأ التقويم السليم ويبدأ العدد التصاعدي إلى سدرة الخلود ، كي نتنفس الصعداء من تصديق رؤية الهلال الشرعي ، ومن فنجان قهوة العزاء نقرأ الشهر الذي يلينا إذن لا يلعب قمرٌ بمشاعر العيد ولا تضحك الشمس على الجيوب المثقوبة حين تخرج صورتي من ذلك اللهيب المدور بدوران الدولاب ، كثرة مشاتل أعمدة القناديل فالعتمة لا تحتاج إلى طاقة كهرومائية طالما تساوت فيها المسافة والأيام وتصرفت الأرقام كالأصفار المحمولة على الشمال ، أخشى على نفسي الأمارة بالفتن فإني رأيت بأم عيني الموتى يكتبون الرسائل ويدونون السرديات ، الله أعلم ، لمنْ سيرسلون ، رأيتهم يكتبون عن معيشتهم ، محتويات البطاقة التموينية متعددة الأشكال تشمل المكسرات والمسكرات حتى أنواع المقويات والحافظات ،
يصفون لنا المعاطف التي غطتهم وتهب عليهم العواطف كنسيم البر والبحر ، يشرحون عن صحفِ العفو على عكس ما قاله الخطيب الفلاني على منابر النصيحة بإن الله يبطش بالعباد ، رأيت أحدهم يكتب جملة لافتة بحروف عريضة
" لا خوف هنا " ،
كما قال لي أحدهم لن نهتم بثقل خطاكم ولن تغسل أجسادنا الدموع ولا نرقص على أنغام النحيب رغم أننا لن نشتاق للأرض إلا امرأة ما زالت تهوى أن تعود كي تنوح عند رأس أي قبر ، بينما قسم من هؤلاء ينحتون التفاصيل بازميل الوجعِ لتظهر ملامح السعادة على الولدان الظاهرة في مرايا الكتاب اليمين ،
الموت يرانا جميعا من ثقب صغير جداً دون أن يكترث لحجمنا أو كثافة شعرنا ، هم ينصبون أيامهم حسبما يشتهون ، ستائر نوافذ خيامهم هي التي تقوم بتناوب الليل والنّهار ، يحلمون بأعينٍ من عقيق كأن التاريخ انهزم من الارض في معركة سلمية أبطالها المعاندون ، الأنهار تبتلع الزمن ، كل الوجوه التي نقابلها مألوفة أنهم ليسوا غرباء ، رقاب تحمل الرؤوس تجوب الطرقات لا بُطون ولا أرجل ولا قولون يقلق السفر ، الأعمار تقاس طبقا لطول الجناح المتفرع من أطراف الرقاب ، الظمأ جميل والجوع جميل والوجع جميل ، جميل ، جميل كدتُ أن أغفو على كتف صاحبي بعدما صاح على النادل أن يأتيه بقدح آخر خالٍ من السكر ، أنتبهت على حركة كفّ صديقي وهو يعرض عليّ شراء قطعة من ترابٍ تكفي لعشرين قبرا ،
قلت له يا ليت ، لكني لا أملك المال ، أجابني على الفور سأقرضك قرضاً حسنا من دون فوائد والتسديد بالتقسيط ابتداء من الموتة الاولى ، لم أجب ،
بل أذهلني سؤالي الذي أغرقني في دوامته الأبدية
" يخوفونا بالله ليتنعموا بالدين " ..
———————
عبدالزهرة خالد
البصرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق