في نص الشاعر "قاسم وداي الربيعي"
(ذاكرة باردة)
بقلم /حسين عجيل الساعدي
(لقد صدح قلبي مع صوت المزمار،
وكان القصب والسمك معي يصدحان،
لأن الآلهة تحب المكان، أعطته حنجرة الغناء الجميلة هذه)
"نص سومري"
"ذاكرة باردة"
من جملة فصول طفولتنا
كنا إذا طرق البرد
لحومنا الطرية
نهرب صوب الشمس
نستحم بـــــ أشعتها
ونستلقي على القصب
كالخناجر البدوية !
قاسية جدا فصول القرية
غير إننا نلهو بها
كالعصافير المبللة على ضفاف الريش
طيبون, ثوبنا الجوع والخجل
لا تتعدى أحلامنا
إلا موقدا
يمنحنا بيوت دافئة
وقرصة خبز نشد بها البطون
محاصرون بين الماء الراكد
الذي يشبه وجوهنا تماما
ومساحات (زهير البط) المنقوشة كالوشم
نهاية الجداول العارية
مواويلها مثل المخدر
تسري في أوردة – المشاحيف
ثيابنا لا تكاد تغطي السيقان
وأنوفنا محمرة من شدة البرد
نركل الضيم بدفاترنا المحشوة
بالسياح والدهن الحر
فقراء – لكننا نغفو على أسيجة الزمن
كالرنين في صدر الأجراس
=============
قراءة النص:
إن من دواعي أختيار نص الشاعر "قاسم وداي الربيعي" (ذاكرة باردة)، نابع من كونه تجربة أستطاع بها أن يعطي (المكان) دوره المميز، الذي يعد المحرك الرئيسي للدلالات النصية في رؤية وبنيوية النص الشعري. لقد وقف الكثير من النقاد عند مفهوم (عبقرية المكان)، الذي أمتاز بحضوره وتفرده، الذي ننفذ من خلاله ( إلى روح المكان لنستكشف عبقريته الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة).
المكان وثيق الصلة بالشعر والشعراء، فلا يمكن إيجاد نص يخلو منه، فهو مرتكزاً للإبداع الشعري، ومحرك شاعرية الشاعر، ومنطلقاً لتشكيل النص الشعري، فـ(العلاقة بين الشعر والمكان علاقة عميقة الجذور، متشعبة الأبعاد)،"أحمد درويش، في نقد الشعر، ص84".
الدلالة اللغوية للفظ (المكان) في المعاجم العربية، مشتق من الجذر اللغوي - م ك ن - بمعنى أمتلاك الشيء والتمكن منه، وعند الراغب الأصفهاني هو الموضع الحاوي للشيء. أما وفق المنظور الجغرافي (أمتداد طبيعي ذو أبعاد، تحكمه المقاييس والقوانين الهندسية). ولكن المكان في النص، مكاناً فنياً، هو تأصيل للهوية والثقافة، يعاد قراءته دائماً ضمن رؤية تأويلية، للكشف عن دلالاته، كونه يشكل عمقاً إنسانياً، وبعداً سيكولوجياً، من خلال تحليل البنية المكانية، كأثر وجودي لا يمكن أزاحته عن ذاكرة الإنسان.
تعامل الشاعر "قاسم وداي الربيعي" مع المكان من خلال اللغة التي تعكس مفهوماً جمالياً وفنياً داخل النص، تبرز فيه رؤية الشاعر في تشكيل البنية الجمالية المكانية في النص، وأثره (في تكوين وعينا النفسي) كما تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي "جاستون باشلار" في كتابه (جماليات المكان). فعمد الشاعر إلى صياغة معالم المكان، كونه موشوم روحياً ووجدانياً في الذهن، كصور وذكريات، شكلت نواة وعي وشعور بالأنتماء ودلالة الهوية برمزية المكان، فالمكان في النص الشعري ذات طاقة جمالية تعبيرية، يكشف عن علاقة الشاعر بمحيطه المكاني، كعلاقة وجودية، لأنه يبعث في النص الشعري طاقة، تتيح للقارئ أن يجد فيه أبعاداً جديدة ومتعددة، فهو السابق للوجود الإنساني. الوجود الذي خلق حالة أندماج بين المكان والذاكرة. لإن ذاكرة الإنسان مرتبطة بذاكرة المكان. فمنذ الوهلة الأولى، نرى الشاعر يرسم في نصه لوحة طللية يستنطق بها المكان، ويستحضر صوره ومفرداته الشعرية، في حالة من الشعور واللا شعور، فهو بين ذاكرتين (ذاكرة المكان وذاكرة اللغة). ونص الشاعر "قاسم وداي الربيعي" هو شيء من الذاكرة، تقوده إلى المكان الذي يمثل ذات الشاعر ومحتوى ذاكرته.
يقول الناقد الفرنسي (رولان بارت): (العنوان ثريا النص)، وعنوان النص (ذاكرة باردة)، يعد توطئة للدخول الى النص وأبراز بلاغته والكشف عن جمالياته. فهو ضرورة نصية، لأنه يوجه المتلقي الى طبيعة وخفايا النص. فلغة العنوان الشعرية تميل للتجريد والتكثيف والبحث في ذكرى باردة تنعش ذاكرة الشاعر.
موضوعة الذاكرة تناولتها الكثير من الدراسات النفسية والفلسفية والنقدية، لأهميتها في تحديد هوية الإنسان. والذاكرة كما عُرفت في "موسوعة لالاند الفلسفية" (وظيفة نفسية تتمثل في أعادة بناء حالة شعورية مع التعرف عليها)، وهي أحدى مفاتيح أثراء النصوص الإبداعية في الكشف عن ملامح التجربة الفنية والذاتية للشاعر. وهذا مصداق ما ذهب إليه الروائي الفرنسي "ميلان كونديرا" حين قال:(في الدماغ منطقة نوعية يمكن تسميتها بالذاكرة الشعرية، تسجل كل ما يفتننا ويؤثر فينا، وهذا ما يمنح حياتنا جمالها). ولكن، في أي مكان نبحث في ذاكرة الشاعر "قاسم وداي الربيعي" والوصول إلى خبايا تلك الذاكرة؟.
في البدء نتساءل ماذا نقصد بالذاكرة والذاكرة المكانية؟
الذاكرة كمفهوم تناوله علم النفس يعني (أسترجاع مجموعة من الأحاسيس والأنفعالات والمشاعر التي تتحكم في الإنسان)، أما الذاكرة المكانية في علم النفس، (هي شكل من أشكال الذاكرة المسؤولة عن تسجيل المعلومات حول بيئة المرء)، ووفق هذا الفهم تكون للمكان صورة في ذاكرة الكثير من الشعراء الادباء، فهم يستحضرون الكثير من الأماكن التي تسكن في ذاكرتهم وتشكل مفردات ثقافتهم وموجودات ذاكرتهم بكل ما تحتويه.
أيقونة نص الشاعر "قاسم وداي الربيعي"
(الهور*)، ذلك العالم الذي يجمع الطبيعة والاسطورة معاً، إنه ذاكرة الإنسان الجنوبي، ووجوده الأول، ذاكرة ملئها التاريخ، بملامح وجذور ذات العمق التاريخي السومري.
فالشاعر ينبش في ذاكرته، ليستعيد منها جماليات المكان، وإنتاج ما عرفه عنه، وما أستوحاه منه. فأرتباطه بـ (المكان) لا يقتصر على الجانب المادي فقط، بل يتعدى إلى أرتباط نفسي وروحي يدل على توق الشاعر إلى (مكان) تركه، ثم عاد وأسترجع أنفعالات ومشاعر تتحكم به، كونه فضاءً روحياً يستمد وجوده وثقله من عمقه التاريخي والحضاري، لا بوصفه مسطح مائي، وأنما بوصفه هوية وأنتماء ثقافي وروحي، لذلك يعمد الشاعر إلى أبراز المظاهر الحقيقية لبيئة الأهوار، وأمتدادها المائي الطويل ودورانه حول بيوت القصب "الصرائف"، فيسترجع كل تفاصيل المكان ذات الأثر النفسي، بنكهة الطين والقصب، ومظاهر البردي والماء والطيور المهاجرة والقوارب الصغيرة "المشاحيف" وأريج حضارة سومر، فهو يمثل راحةً وعزلةً وفضاءً ومساحة من الشجن مفتوحة، يتمناه الشاعر، لا يمكن الأستغناء عنه أو مغادرته.
فالهور لدى الشاعر وعي منعكس في النص، كخطاب شعري حامل صور ومعاني ودلالات رمزية قادرة على التغلغل في عمق المكان، وأكتشاف أسراره وخباياه الجمالية. لذلك كانت صورة المكان، ذات دلالة إنسانية، وحمولات نفسية عميقة، منسجمة مع الواقع، وعلاقته بالذاكرة الجمعية الممتدة في كل جوانب الحياة اليومية (للهور) من ثقافة وبيئة ومجتمع.
أكتسب المكان عند الشاعر دلالة إنسانية، وشكل في ذاكرته وعاء، حفظ ما تراكم به من ذكريات الطفولة البريئة، ذاكرة مليئة بأجواء ومفردات البيئة المحلية، يجعله يشعر بجماليات الأشياء وبراءة الطفولة.
(من جملة فصول طفولتنا
كنا إذا طرق البرد
لحومنا الطرية
نهرب صوب الشمس
نستحم بـــــ أشعتها)
لماذا لجئ الشاعر إلى الماضي؟
النزوع إلى الماضي، تجربة ذاتية، لها أساسها السيكولوجي، فالشاعر يتوق إلى ماضي ذكرياته، وهذا الحنين للماضي والعودة إلیه، وأستدعاء الذكريات، يطلق عليه "النوستالجيا"* الشعرية، ونص الشاعر لا يخلو منه، فهو يستذكر الماضي ورغبة العودة إليه، وإلى بساطة الحياة، والتأمل وأسترجاع ذكرياته، فالإنسان يألف العيش في الماضي، وهذا الشعور يولد عند الشاعر ذكرى عاطفية تعود به إلى الماضي، فيعيد خلق الإحساس الذي يعتقد في وجوده في لحظة ما.
(نهاية الجداول العارية
مواويلها مثل المخدر
تسري في أوردة – المشاحيف
ثيابنا لا تكاد تغطي السيقان
وأنوفنا محمرة من شدة البرد
نركل الضيم بدفاترنا المحشوة
بالسياح والدهن الحر)
للمكان حضور مكثف في النص، نرى الشاعر "قاسم وداي الربيعي" مسكون بالمكان ووجعه، وتصوراته الذهنية وحوادثه، فهو مركز خطابه الشعري الحامل لهمومه وتوتره النفسي، ومرآة عاكسة لحاله في أثارة أسئلة تحاول أستعادة فردوس طفولته المفقود.
هل جاءت صورة المكان في النص عبر المتخيل* (الذاكرة) أم الحقيقة (الواقع)؟.
نحن نعرف أن المكان في الشعر يتشكل عن طريق اللغة التي تتجاوز حيز الواقع الى ما بعد الواقع، والشاعر يدمج وبأسلوب شعري بين المتخيل (الذاكرة) والحقيقة (الواقع)، فيصنع من الذاكرة نصاً، يسجل بكل دقة ما جرى في الواقع، في محاولة جر المتلقي الى تصورات نفسية وجمالية، من خلال توظيف المكان بما يمتلكه من تدفق شعري وأعطائه البعد الجمالي، وأستدعاء روح المكان المكتنز بدلالات جمالية ذات حس وجداني. فنجد المكان في النص المعطى الواقعي والبناء الذهني، الذي أكتسب دلالة رمزية بوصفه جزء من هوية الإنسان، أو بما فيه من حس صوفي. (فالمكان وفق هذا التصور هو وجود فني ومادي أصيل وعميق مرتبط بالوجود الإنساني خصوصاً إذا كان المكان هو وطن وأنتماء مشيمي بدئي يرتبط بالمكان الأول الطفولة)، "د. محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)".
في النص مجموعة من العلامات والرموز التي تدفع بالمكان ليكون أكثر جمالاً، فيعمد الشاعر إلى وضع بعض ظواهر المكان ذات البعد البيئي، عبر التغلغل في جذوره، التي شكلت (ثقافة الإنسان وهوية المكان)، فهو يناجي المكان والذوبان فيه عبر مفردات، أرتسمت في ذاكرته تحمل كل معالم المكان البيئية والنفسية والروحية والجمالية، فمعظم مفردات (الهور) تضمنها النص، هي تشكل إسقاطاته النفسية والشعورية.
(القصب/المشاحيف/القرية/المواويل/قرصة الخبز/العصافير/الجداول/زهير البط/السياح/الدهن الحر).
(القصب) أيقونة (الهور) والموجود الطبيعي وثنائية الحياة مع الماء، الذي أرتبط تاريخياً بالذات العراقية الجنوبية القديمة، حتى أن كلمة "سومر" تعني في اللغة السومرية "أرض سيد القصب".
(نستلقي على القصب
كالخناجر البدوية !)
إن البحث في هوية المكان، لا يمكن قراءة دلالاته وجمالياته دون تحديد بنيته المكانية، فالدلالات التي يحتويها النص هي (هوية المكان ودلالاته الشعرية)، حينما يتحول من مجرد وجود بيئي إلى رؤية وأنتماء وجداني وروحي.
الشاعر في النص يعيش الواقع المأزوم بالألم والدمار والتصحر واليباس، الذي تركت أثاره، آلة التدمير حين دمرت معالمه الجمالية، (وتحول إلى مكان موحش مطفأة أنواره وموصدة أبوابه وجافة جراره)، فبدأ كأنه محملاً بشتى أشكال الوجع والأنين.
(نهاية الجداول العارية
مواويلها مثل المخدر
تسري في أوردة – المشاحيف*
ثيابنا لا تكاد تغطي السيقان
وأنوفنا محمرة من شدة البرد
نركل الضيم بدفاترنا المحشوة
بالسياح* والدهن الحر*)
لقد حرر الشاعر النص من النزعة الرومانسية، ليعبر عن أزمة وجودية وإنسانية تمتزج بالأنفعالات النفسية للشاعر، وما تحمل ذاكرته من حضور وجداني كثيف، فهو يرثي المكان بألم، وهذا يعني أنه أدلج المكان فنياً للدلالة على الواقع المأساوي، وفق رؤية ممزوجة بألم وصخب المكان، يعيد في ضوئها خلق المكان رمزياً بدلالة سياسية، حيث مزج الشاعر ما بين الحالة الأنفعالية له وما يشعر به تجاه المكان، كمنطقة منكوبة وكارثة بيئية.
-------------
* النوستالجيا/ مصطلح طبي استخدمه طالب الطب "يوهانس هوفر" انتهى إلى حالة شاعرية، ويعني التعلق بالماضي بشكل عام أو الحنين إلى الماضي.
* المتخيل/ (بناء ذهني، اي انه نتاج فكري، في حين المكان هو معطى حقيقي وموضوعي)، "حسين خمري، فضاء المتخيل".
* الهور/ هو مسطح مائي منخفض تنبت فيه النباتات العشبية كالقصب والحشائش والنبات البردي، يقع في جنوبي السهل الرسوبي العراقي.
* السيّاح/ وهو نوع من الخبز الرقيق من دقيق الأرز تمتاز نساء جنوب العراق بصناعته يتم إعداد عجينه ثم يسكب العجين السائل على ظهر قرص معدني مقعر إلى الأعلى يسمى صاج.
* الدهن الحر/ أو (السمن البلدي أو سمن البدو أو السمن العربي) هو دهن مستخرج من لبن الغنم أو البقر بطريقة معينة، ويستخدم في المطبخ في إعداد الأطعمة.
* المشحوف/ هو زورق صغير طوله حوالي تسعة أذرعٍ وعرضه ذراعان يستخدم في أهوار وأنهار العراق الجنوبية.
* زهير البط/ ورد أصفر اللون ينمو بجوار الهور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق