بقلم الكاتب والباحث علي محمد العبيدي
************************************************
.. فيما سبق كان ..
يوم قائِظ من شهر يونيو ، أنتظر الحافلة والشمس تضرب أم رأسي .. تبدو مائلة من بعيد بطابقين و بحملها الثقيل ، تَرَجَل بعض الراكبين ، أرتأيت الجلوس في المقعد الخلفي ، لَم أحشر نفسي ولكن مُجبرا على الجلوس بين رَجلٍ مُسن وإمراة افترشت ثلثي المقعد الطويل بوزنها الثقيل ، تبدو متضايقة لشدةِ الحر وهي تحمل مروحة هواء ورقية أنيقة ، تفرست شزرا وجهها المكتنز المتعرق . انّتَعَشْت للهواء و هي تحركها على وجهها وأنا آخذ حصتي من انسام فاترة على الرغم من صمتي وهي تطال وتضرب أنفي بمروحتها أكثر من مرة ودون أن أتكلم ودون أن تنتبه .. ليس ذنبها وأعلم هو ذنب أنفي الطويل ، .. الزحام شديد ، مددت يدي ، كثيرة هي الدراهم في جيبي افرح حين اسمع رنينها تطرب اذني .. لن يكلفني الموعد سوى بضع دراهم .. قد اعدَدت العدة في ليلة متأخرة و اعتنيت كثيرا في كَي البنطلون الحبري حتى كاد أن يحترق . تعمدت ذلك مرارا لأخفي معالم توسيعه المتكررة ، لم يزل هناك بعض البريق في إحدى فَردَتَي حذائي الأسود و يبدو معقوفا من الامام نحوي بعض الشيء لا أعلم ربما هو التجهم لكثرة الإستخدام المفرط .فَعَكفَ بوّزه باتجاهي ، بِتَشائمِ حذاءٍ أبلاه الدهر ومناقب السير في دروب الحياة الواهنة ، وأزقة متداعية ، قد عانى ما عانى من خدمتهِ الطويلة لي و رغم ذلك أجده أنيقا رغم تفاهتهِ .
يكفيني أن ازداد وجاهة حين ارتدي ربطة العنق الزهرية ،
عمرها سحيقا .. كان أبي رحمه الله
يرتديها في العهود السابقة
حَمَلتُ الكثير من ملامحه إلا بعض الإختلاف ، كنت أحب الصخب ..وأكره تلك الربطة الوحيدة . وأعشق النساء الحالمات بتسلق القمر في ليالي الوحدة و وحشة الروح ، وأعشق السطو في آخر الليل على فاتنات الحي
و برغبتهن ..
رباط عنق مخضرم مجبر أَنْ أرتديه .. لعل اللقاء يُغيّر من رتابتي .. تهيأت للموعد ليلة امس حين استقبلت النداء ..
كيف حالك ..؟ قالتها بصوت رقيق
على سماعة الهاتف الأسود
بقرصه الدائري وأرقامه المثقوبة ،
كان موعداً غرامياً ..
تأملت أن أرى صاحبة الصوت الملائكي لم أعهد المغازلة ستكون جميلة .. ربما كما أدَّعَتْ على الرغم من عدم معرفتي لها . ولا اعلم كيف حَصَلَتْ على رقم هاتفي .
ترجلت من الحافة بصعوبة ، الزحام شديدا ..
قالها مسن يمشي بجواري
أبن اختي .. (دير بالك من السراق)
شعرت حينها إن لي هيبة .. مختال بنفسي أكثر مما أضن ..
أعترضني صبيٌ (عمي تصبغ) .. ربما لم أحقق أُمنية الحذاء يبدو انه فَطَرَ قلب صباغ الأحذية فأعتذرتُ .. دون أنْ أُثير أنتباه حذائي العتيد ..
و على ناصية قريبة من حديقة الزهور دَخَلت الكازينو ، كانت تجلس وحدها في الركن الاول على طاولة مزدوجة ، نعم هي كما قالت أنها ترتدي كنزة بيضاء موشحة بالاخضر .. فألقيت السلام مرحبا عزيزتي .. التَفَتَتْ .. فانصدمت لوهلة وتسمرت مكاني ، بَلَعت ريقي .. وقد أصابني الوجوم .. يبدو انفها معقوفا تباً.. يذكرني بحذائي المهترئ ..وجهها يشيع الابتئاس ، قالت بصوت مفزع أجلس ، فجَلست على حافة الكرسي تلعثْمْتْ ولا أعلم كيف نَطَقتْ ، آسف اسمحيلي لم تَكن أنتِ من أتصلت و وصفتِ يبدو انك لستِ من قصدتها .. أجابت بل أنا وأبكرت في الحضور ،
أجبتها أنك كاذبة . أين عينيك الزرقاوين ، أو بالأحرى دعينا من ملامحك . كنت لأرضى و كان الأجدر أن تستعيني بالصدق . لَكنتُ أحسنت الظن بك فاسمحيلي بالمغادرة . أزدرت وانتفَضَت وضربت الطاولة بكفها وعيناها جاحظتين ، مما أثار إنتباه النادل ،
على ما يبدو أني كنت صيدا سهلا .. وقبل أن تنطق قرأت ملامحها ، سمعت منها بعض السِباب ، نهضت وأدرت ظهري و أطلقت قدمي للريح . فما جدتني إلا في ركن الشارع مبتعدا مسافة تفي بالغرض، شعرت بالأمان كأني نفذت من جرم ما ، أخرجت ما في جعبتي وأنا أعُب أنفاسي ، عدَدّتُ دراهمي تكفي ..
أشتريت ربطة عنق جديدة و حذاءً جديداً تركت القديم بفكه المعوج على أقرب رصيف .. علَّ رَجُلاً ذو حظ عاثرٍ يرتديه.
************************************************
تتميز كتابات الأديب والكاتب علاء الدين الحمداني الشعرية منها والقصصية بالتصوير الفني الذي يسعى الكاتب من خلاله إلى الجمع بين ما يتخيله وبين الصورة التي تمر أمام عينيه ، فيلتقط هذه الصورة ويحفظها في ذاكرته ثم يوفق بينها وبين الموقف الذي حصل في ذلك المكان ويبدأ بالتأليف بين الصورة والألفاظ التي يبني منها الجمل المعبرة بدقة عن الاحداث التي درات هناك وتدخل في ذلك عدة عوامل منها قدرته على التعبير بطريقة سلسة بأسلوب فني وبلاغي يدل على تمرس الكاتب في هذه الصنعة .
وليس في الامر من شك أن ارضية افكار هذا الكاتب خصبة لانه يداوم على سقيها بكل ما هو مفيد يضاف إلى ذلك التجارب الأدبية المستمرة وتذوقه لمختلف الأعمال الأدبية اهلته لكي يجني ثمار جهده ويقدم اعمالا ادبية بهذا المستوى تستحق ان تكون في المقدمة .
وقد شغلتني هذه القصة منذ نشرها ولحد الآن، فقد علقت في ذاكرتي كيف كانت الصور التي تخيلها الكاتب وكيف تمكن أن يتسلل بطريقته إلى أفكار المتلقي ليأخذه معه إلى عالمه يتامل معه هذه الصور الفنية والتي تناولها بايجاز وعزز من خلالها هذه القصة فجاءت على جانب من الضبط وحسن الترتيب وتسلسل الأحداث.
أنا لا أريد أن أتحدث عن جميع الصور الموجودة في القصة ولكن قصدت أن جلب انتباه المتلقي إلى القدرة الفنية لهذا الأديب وكيف يتمكن من ان يستحوذ على افكار كل من يقرأ نتاجه الأدبي .
في الجملة الأولى والثانية من بداية القصة وفي عشر كلمات أو أقل تمكن الكاتب من تصوير مواقف متعددة بقدرة لغوية بديعة وهي المناخ الصيفي .. وشدة الحر .. والمحطة.. والانتظار .. والشمس المتعامدة على الرأس .. وشكل حافلة نقل الركاب ذات الطابقين.
ثم دخل بعد ذلك إلى تفاصيل يصف من خلالها كيف كانت الحافلة مكتضة بالركاب وكيف ترجل عدد منهم حال توقفها في المحطة ومن ثم صعود عدد اخر من المنتظرين إليها، بعد ذلك تصوير داخل الحافلة وتفاصيل الكراسي وطريقة الجلوس إلى غير ذلك مما يجعلك أن تتخيل نفسك وانت تستقل هذه الحافلة وليس غيرك .
وقد ذكرني الكاتب في قصته هذه برأي علماء البلاغة الاوائل وهو قوة ملابسة الكاتب الأحداث وقدرته الادبية للتعبير عن الحدث.
وهنا كانت اشارات الكاتب ودقته في صحة التصوير وتحويله إلى الفاظ مقروءة تعبر بصدق عن ما يريده الكاتب والطريقة التي تساعده لكي تضيء بصيرة المتلقي كانت العامل الأساسي الفاعل في نجاح الكاتب من الوصول إلى المتلقي بهذه الإيجابية المتميزة.
واذا ما تأملنا قدرات هذا الكاتب من خلال ما يقدمه بين حين واخر نجد أن جرس افكاره يرن بين فترة واخرى لينبه الكاتب على تفقد نفسه وانه قد تجمع في صلب ذاكرته شئ يقول له اجمع احاسيسك ومشاعرك وراجع ما عندك وابحث في دقائق الخزين واختر من الفاظك ما يناسب العمل الجديد وأسلوب كتابته، وهذا ليس مدحا للكاتب وانما هو ديدن كل اديب متمرس وعلى جانب من الفراسة ويريد أن يحافظ على مستواه الأدبي ويحاول دائما أن يطور من قداراته وامكانياته.
وأود أن اشير إلى أن الأديب علاء الدين الحمداني عنده مساحة واسعة من التصور لمختلف المواقف التي تمر به اضافة إلى قدرته في ترجمة الأفكار والصور بطريقة دقيقة وواضحة بعيدة عن تداخلها في بعضها البعض خالية من التعقيد بعيدة عن التراكيب المعقدة التي لا يمكن فهمها الا بصعوبة ولا تحتاج إلى المد والتطويل، وهذا كله يجعله قريبا من المتلقي لانه سيعرف مهارة ودربة الكاتب عن قرب.
علي محمد العبيدي
كاتب وباحث
4/7/2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق