ليلة ثقيلة قضتها السيدة العجوز ، لم يغمض لها جفن ، تركت فراشها الوثير لتجتاز بخطواتها المتثاقلة غرف الدار المظلمة جيئة وذهابًا ، أقدامها تعاني ألم المفاصل
( الروماتيزم ) وبالكاد تحملها ، تعثرت لعدم إرتداء نظارتها الطبية بعد أن ضعف بصرها ، تسارعت نبضات قلبها مع ضيق في التنفس وتشتت التفكير .
تهيؤات وهواجس تداخلها بإن أمرًا جللٍ قد حدث ، انصب تفكيرها على ولدها الأصغر ( علي ) الذي التحق بكلية القوة الجوية ومجموعة من زملائه في ( قاعدة سبايكر ) ، اختلطت المشاعر بين الخوف والقلق وذرف الدموع ، وبدأت تناجي نفسها :
- يمه علاوي ، وين هسه ؟! نايم ..گاعد ، جوعان .. شبعان ، من فدوه لطولك يمه ..
صوت نحيبها أيقظ أبناءها ، أسرعوا إليها..
- ها يمه شكو ؟! خير إن شاء الله ..!
- مدري شبيه ، يمه گلبي يوجعني ، شو ما مرتاحه !!
بكى الجميع لبكائها واستجمعوا شجاعتهم لتخفيف حزنها وقلقها ، منهم من بدأ يدلك أقدامها ويديها ، ومنهم من رش الماء على وجهها ، ومنهم من وضع رأسها على حجره ..
اِتفق الجميع على أن ( قلب الأم لا يخطىء أبدًا ) وإن مكروهًا قد حدث لأخيهم ..
كان ( علي ) يحب الفكاهة والمزح مع أصدقائه ، ويتحين الفرص لإيقاعهم بحبل مكائده ، أما الضحكات العالية بسبب وبدونه فكانت تدفع ضباط الصف إلى إيقاع العقوبات الجماعية بمجموعة ( الشقايچية ) كما يحلو للجميع تسميتهم بها ..
ورغم أجواء المرح التي اعتادوها ، ألا أن هناك وقتًا مخصصًا للاستماع للأخبار وتحليلاتها ..
- شباب .. هل سمعتم عن تحركات تنظيمات داعش .. وأين وصلوا ؟
- أعتقد أن الموصل سقطت عسكريًا
- لا .. لا .. الأنبار سبقتها بالسقوط
- هل تعتقدون أنهم سيصلون إلينا قريبًا ؟!
- لكن القوات العسكرية قريبة جدًا من القاعدة ، ولن يفكروا بالمجازفة .
لكن ( علي ) بروحه المرحة ضحك عاليًا وهو يعلق بصوت خافت :
- ستكون حصتي زوجتين من السبايا ، فعندما يصلون سأكون معهم ها.. ها.. ها..
قطعت ضحكاتهم العالية أصوات أزيز الرصاص وقذائف الهاون ، الفوضى عصفت بالمكان ، الكل يركض بلا هدف ولا إتجاه صحيح .
الهروب كان من ضمن الخيارات المطروحة ، لكن يصطدم بصعوبة التنفيذ لعدم توفر وسائل النقل وبعد المكان عن المدينة رغم محاولات لمجاميع متفرقة لا تخلو من الضحايا .
فكر ( علي ) ورفاقه بالمقاومة ، لكن لم يكن حلًا ناجعًا لتوارد الأخبار عن إنسحاب أغلب القطع العسكرية المساندة والماسكة للأرض ، وأن العدو لا يروم المساس بالطلبة والقاعدة الجوية ، وسيوفر لهم الملاذ الآمن أو تأمين طريق العودة ، وهذا من ضمن الحرب النفسية التي أستخدمتها التنظيمات الإرهابية .
لم تمر إلا دقائق .. حتى عم اليأس المكان .. أصبح الجميع أسرى .. العدد يقترب من ألفين ، اختلطت دمائهم الزكية مع ماء دجلة ..
ضحكات ( علي ) وهو ينحر ، وصل صداها لبيته ، سمعتها أمه .. ضحكت معها .. ملوحة بيدها للجميع ..
- يمه علاوي .. من عمري على عمرك .. الجنة وياك حلوة ..
حيدر الدحام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق