هذا هو الجزء الثّاني عشر و الأخير من روايتي المخطوطة ليتني "أشرب ...بخيالك " وفيها نقف على خاتمة حكاية الأستاذة و موقفها من حياتها السّابقة و رأي الأخوين الصالح و الفالح في ذلك..متابعة طيّبة.
كان أخي ذلك السّاجد في محراب الفضيلة كثير الإصرار على العَوْدِ إلى المعهد ربّما هَرَبًا مِنَ القُعُود في المنزل. فلم يكن أبدًا مَيَّالاً إلى فُسْحَةٍ في المدينة أو راغِبًا في نُزهة. ما كان يعرف من المدينة إلاّ بعض طرقاتها الكبرى. وكَبُرَ وكَبُرَتْ المدينة ولاَ يعرف أنهجها أو أزقّتها. كان يستحمّ بماء البحر بعينيه. وكنتُ أعرف من المدينة أسرَارَها وشوارع شرورها ومخابئ مهالكها ومكامن عبثها ومساكن لَهْوِها. ولكن حين أضحى صدري يضيقُ بها ورغبتُ في تركها صارَ صدر أخي يضيق بالدّار الدّائرة المسوّرة ويرغب كثيرا في كَسْرِ سورها. لذلك ما دَعَانِي إلى سَفَرٍ قاسٍ ورحلة شاقّة إلى المعهد القريب إلاّ كتمتُ ضَجَرًا وداريتُ قَلَقًا وأخفيتُ ابتِئَاسًا رَاغبا عنه رَاغبا في "ما رضاء الله إلاّ برضاء الوالدين".
في هذه الأيام الأخيرة من الثلاثي الأوّل يكاد يكون المعهد قفرًا، أساتذة مطيّتهم في التغيّب إصلاح امتحان، وتلاميذ أَلِفُوا عطلة قبل العطلة بشهر أو يكاد مِنه يقترِب، وإداريّون مقاعدهم خالية عِلَلُهم في ذلك انتظار أستاذٍ مجتهد يَمُنُّ بأعداد، ومديرٌ ليس له ما يُديرُ هذه الأيّام في المعهد، ومَصْلحة أعمّ لهذه البلاد في اجتماعات "الجبهة الشعبية" التي لا تُحْصَى ولا تنتهي ولا تكتمل مُقَدَّمَةٌ على إدارة معهد صغير قد تزول وتنقضي. فأين اجتماعٌ بأساتذة أو بعملة وحَامِلي سَطْلٍ وخِرقةٍ ومِكنَسةٍ في قاعةٍ بالمعهد ضيّقة بها مكتب خشبيّ قديم وكرسي منه أقدم وطاولة مِنها أسبق عمرا وخِزانة واقفة على ثلاثة أرجل بها رُفٌّ واحد، أين ذاك من فاخِر قاعَةٍ كالمَلْعَبِ نظيفة مزيّنة بها المدير عضو بارز من حكماء هيأة التفكير والتخطيط لمستقبل البلد؟
في تلك الأيام الأخيرة كان المعهد في هدوء وسكينة وخَلاَءٍ كالمقابر في لياليها المظلمة لا أحد به إلاّ الحارس كئيبٌ ناعس اللّحظ مجتمعُ الجِسم على كرسي كالكُرة، ركْبتاه إلى صدره يضمّهما ضمّ المذعور الخائف.
سألناه عن المدير فكأنّما سألنا غُلاَةَ الرّوافض عن أبي بكر وعن عمر، أو كأنّا سألنا حِبْرًا يهوديّا عن دين محمّد، فأشار برأسه ثمّ قال :
- كًلُّ آدميّ له أربعة إلاّ من كان مسْؤُولاً -أو ظَنَّ- فَلَهُ كالقرد خامِسَةٌ بها يعتدل ويتسلَّقُ...
وضحك ذلك الحارس سخيف الذّهن قليل الحياء بائس المنظر، وأضاف :
- إذا وقفتَ عند بَابِ أيّ مُدير فاسْتَعِذْ يالله، فإنّه ليس له سلطان على المستعيذ بالله.
فَمَسَحْتُ بيدي على رأسه وقلتُ أُمازِحُهُ :
- بك اللّهم وحدك نستعيذُ، وبِسِرِّ فاتحة هذا الحارس المُكْتَئِبِ نستعينُ على كلّ جبهة آدمية بها سِمَةٌ من "الجبهة".
لم يُسَرَّ أخي بمعهد خَلاَ من أهله. فرأيتُ وَجْهًا مُتبرّما ومنقبضًا تزيده عينُه اليسرى الحولاء انقباضا وتجهّما وتركته إلى جوار الحارس المبتئس. بؤْسٌ يُواسي تفجّعا.
كان مكتب السيّد المدير معرّج الباب. طرقتُ واستأذنتُ واسْتَأْنَسْتُ فإذا الرّجل مغروز الرّأس عينه كالإبرة من وَرَقٍ كُتِبَتْ عليها بعض الأسطر. ومع أنّي من المكثرين المُدمنين فإنّي لم أتحمّل تلك الرّوائح المنبعثة من سجائره. سيجارة مازالت تشتعل في المطفى وأخرى بين أصابعه. طبق من فوقه طبق من تحته أطباق من دُخانٍ مُنْتِنِ محصور في غرفة ضيّقة غُلِّقَتْ نافذتها الصّغيرة. فقال :
- لَحَى الله إدْمَانًا رغم فَقْرٍ وضُعف قوّة وذهاب صِحّة في العمل...(وصَارَ يكحّ).
لم يكن السيّد المدير ضعيف جسد وما بَانَ عليه كِبر وما ظهر عليه فقر أو حَاَجَةٌ لِباسُه لِباسُ أمير ولِسانه لِسانُ وزير وحاله ما دَلَّتْ على فقير. ولكّنه كان كثير الشكوى والتألّم والتوجّع. ما ذُكرت لفظة "سياسة" إلاّ قرَّبَ مِنْ شفتيْه سيجَارة مجهولة الصّانع فَسَبَقَتْه عَطْسَة المحرور وبحّة البائِتِ في الصَّرَدِ وكحّة المصدور وسعْلَةِ أهل "الكِيف والمِحْنَةِ"...مِحْنَةِ توهّم النضال ومصارعة السّلطة الغبيّة القاهرة وتحقيق أهداف قديمة ومزعومة ومخطوطة في الكُتُبِ والأسفار تآكلت مُصْطَلَحَاتُها وتهرّأت مَضامينُها وتجاوزها الزمن وعافتها الجماهير وأغلقَ الواقع أمَامَها كلّ الأبواب وصَدَّ دونها كلّ الأسماع، فلم تجد منفذًا لهذا الواقع تَلِجُ منه إليه لأنّها لم تنبُتْ فيه كالمُقْتحم قلب المدينة على ظهر بغل يُحَمِّلُه القشّ والتّبنَ فرَاغ من حركة وخَافَ صَدْمًا، وظلّ النّاس ينظرون إليه لا تعجّبا من البغل ورَاكبه ولكن تعجّبًا لحضوره في قلب المدينة المزدحم وحيرةِ صاحبه يهمزُ البغل ويُثيرُ النّاسَ.
كان السيّد المدير يدرك جيّدًا بعضا من مآزق وقع فيها يَسارُه التونسي في جَمْعِه أشتات تيّاراته الصّغيرة والمتباينة، وفي اطمئنانه إلى قدم راسخة في هذه التربة المتحرّكة وفي النظر إلى أمّهات الأمور بمصطلح قديم ومألوف لا يتجدّد وفي ملاحقته أحداثا لا يصنعها وفي مُنافسة بغير الرّؤوس وفي عمل بغير الأيدي.
وكان السيّد المدير وزير المستقبل المُرتجى يَعِي بعضا من ذلك فغلب عليه الهمّ والتفكير فاصفرّت أظافر أصابعه من التدخين وتحوّقت عينه مِنه بالسّواد ونَتَأَتْ عظامُ وَجْهِه واسودّتْ شفتاه وجَفَّ رِيقٌ ما كان أبدا يتَبلّل إلاّ معنا ليالي الأحد في "الحوزة العلمية" للسيّد عليّ فقد كنّا نسقيه من خير ما نشرب وإن كان كسول الجيب واليد أحيانا. ورغم تلك الهموم الكثيرة التي لو أُفْرِغَ بعضها في رأس زعيم "جبهته" لخَلاَّها ليَلتحق (بالنهضة)، فإنّه كان يُغالِبُ يَأْسًا ويُصارعُ بؤسًا، بؤس الحافِي المعلَّق يرى العقاربَ تحته تأكل ظلّه وتنتظر هُبوطه وسقوطَه.
ولمّا أَنْ رآني قال :
- ما كانت لي بكَ حاجةٌ. وأستعيذ بالله كلّما ذكرتك، وابتهل للخالق المالك المَلَكِ العَدْل أنْ يجعل لِسانَكَ مَغْلولا فينا. ولقد كنتُ الآن أهمّ بالاستعاذة فكأنّما أوحِيَ إليَّ أنّك السّاعة تأتي.
فقلتُ :
- الحمد لِلّه العليم السّميعِ البصيرِ أن صارت "الجبهة" تذكر الله في سِرٍّ وتؤمن أحيانا بالإلهام وبالوَحْي. أتكون من التيّار اليساري الإسلامي، فإنْ كنتَ كذلك وتعمل بالتّقية، فالنهضة أو الإخوان أولى بِكَ حُضْنًا وأرفق بِكَ مَأْوَى وأسْخى عليكَ يَدًا. ولا ضرر ولا ضير، أما ترى الإخوان قد جمّعُوا من الأضداد والمختلف مَا لاَ يتجمّعُ؟
فضحك وتمطّط وتمدّد ورفع يديه إلى أعلى يسرّحهما ومَدَّ سَاقيْه حتّى يكادُ يدفعني ونفخ صدره وأفرغه وأحنى حتّى كاد ظهر كُرْسِيِّه يتعوّج كالممتلئ جِسْمًا لحما وعَظْمًا وورما وشحما يعتلي ظهر جحش صغير فَلِحِمْلٍ تقوّسَ. ثمّ قال :
- أعرف أنّكَ لستَ مِنّا إلاّ في اللّهو والعبث والشراب فأنتَ مِن الزعيم تقترب وطريقَنا تسلك وآثارَنا تقتفي وفي ذلك تساندنا. أنتَ لستَ مِنَ اليَسَارِ إلاّ في هذه الخطفة...
فقلتُ :
- ولاَ مِنهم في شيء، ولا معهم في أمر. أنا أنا. وسَارَعْتُه بالقول أصدُّ بَابًا أمقتُ وجْهَهُ وأكرهُ مِنه القول وأبغضُ فيه الحديث :
- مَا رأيتُ قذارة إلاّ في السياسة وما سمعتُ كذبًا إلاّ منها وما جُمِعَ باطل إلاّ في حديثها وما التَصَقت حقارة بسخافة إلى تفاهة إلاّ في مُدَّعٍ عِلْمًا بها. فما تَأَلَّفَتْ إلاّ من زيف وما رُصَّتْ إلاّ بالخداع والخديعة والمكر. فمن أراد لعقله اتّساخًا ولأخلاقه تمرّغا ولِلِسانِه زُورا ولِيَدِهِ إثما وعُدْوَانا ولسَمْعِهِ مجرى لبُهتانِ فليتّخذ إليها مسربا لتصير مِهنة مُمْتَهَنة، وما المهنة إلاّ مهانة ووضاعة وامتهان...
لم يكن الحَالِمُ بالوزارة أو بالإدارة إذا استقرّ حُكْمٌ للجبهة في البلاد وقادت النّاس غلى غير الفساد آسِفًا ومغموما إلاّ من فوات عُمُر وسقوط أسنان وتهدّم رُكبة وعجز يَدٍ. فكم تمنّى أن يكون الآن ابن عِقدين ليكون في الثمانين نَائب وزير في حكومة "الجبهة". وما كان "نائب الوزير"يألف مِنّي ذلك الكلام فتعجّبَ العجب. ورأيتُ في وجهه ذلك فاستدركتُ أبرِّئُهُ وأسْتَثْنِيه لِرِفْقَةٍ في اللّهو وصحبةٍ في ذلك المستودع فهَشَّ وبَشَّ ورَضِىَ. وقال :
- دعْ عنكَ ذا. وإنْ كنتَ لا تُحْسِنُ ففي بعض ما كتبتَ قرأتُ ما قد ينفع.
وأخرجَ نسخةً مِمّا كتب أخي وأضاف :
- هل يَبْني البُنَاةُ بالحاضر أم بالمستقبل؟
وقفتُ. تركته في مكتبه. جاوزتُ الباب وعدتُ سريعًا. وقلتُ :
- كنتُ إلى جواركَ أجلسُ، فخرجتُ لحظة وعُدْتُ. أما ترى أنّ الحاضر سريع الانقضاء وسريع الفوات يتلقّفه الماضي كما لقفت عصا مُوسَى ما أتَى به السّحرة فيصير رمادًا فمنه ما تُكْتَحَلُ به العيْنُ ومنه ما يُصيبها بالأذى والرّمد. كلّ شيء مَبْنِيٌّ بمستقبله، الدّين والإنسان والمجتمع والحضارة، التخطيط والآلة والإرادة والسّعي. وفِعْلٌ مخطئ خيرٌ من لسان هاروت وماروت ومكتبة وأسفار وأخبار...الآلة والوسيلة ولو بقدر مقدار. ويَبَّسَ الله يَدَ أخي...
فقال :
- ذاك ما تعلّمناه في "الوطد" وخَالَفَنا فيه "حزب العمّال" وشِيَعٌ أخرى كثيرة من اليسار التونسي.
فقلتُ :
- أَوْلَى بنا جميعا أن نَدَعَ ما تعلّمناه ونصنع نحن ما نُعَلِّمُهُ ونجاهد لتحقيق ما ننتظره.
فقال :
- وذاك أيضا ما ثقب عيونَ هيأةِ كبار حكماء "الجبهة" درسا ومدارسة وهرْسًا للواقع وللفكر والعمل.
فقلتُ له :
- لعلّكم "بني جَبْهُون" الزرعَ الذي سيُغيض به الله الكفّار والمؤمنين جميعا.
وبدا الحديثُ يسلك بنا طريقًا إلى الخَوَر والخوار والهَتر قَطَعَهُ صوتُ أخي كبُوقِ المآذِنِ المصدّد، حانِقا كالمستغيث يودّ الانعتاق.
وأغلقت الإدارة باب المعهد. مدير ليس له ما يُديره في العطلة بالمعهد، فيَسْتَدْبِرُ القبلة ليُوليّ وجهه شطر مجلسهم المعمور بالزعيم وأُمَنَائِه الميامين وكلّ آكل بشماله من حكماء بني حزب "عملون" و"وَطُّود". وناظرٌ ينتظر سَاعةً من الزمن قلقٌ ضجرا عَلَّ أستاذا بأعداد فروض قد يهلّ. وقيّمٌ عامٌّ تهتّكت أعصابه من عمل فهو في بيته للنوم يريد وكاتبةٌ غابت ولن تعود.
وأقفل صديقنا "علي" مدرسته الخاصّة. لأهله ولِقَرْيته قد عَادَ. وساعدنِي ذلك على الإيفاء بعهد قطعته فما أَخْلَفْتُ وما أزعجني صوم ثلاثة. نسهر اللّيل عائلتين مُجْتَمِعَتَيْنِ وننامُ جميعا إلى ما بعد الضّحى. وارتاحت زوجتي إلى أنفاس ليس بها ريحُ خَمْرٍ. نِعَمٌ أنعم الله بها علينا فنحمده الحمد الذي لنفسه ارتضى.
وتمضي الأيّام الأولى من العطلة كما نُريدُ ونشاءُ. وشهر ديسمبر يعزّز بالبيت البقاء. دفء البيت ودفء العائلة ودفء الفراش، غير أنّ أخي قد صَارَ بعد ذلك كالحزين الكئيب يشتكي الضيق والحبْسَ والفراغ والملل فيدعونا إلى الخروج ويحُضَّنا على التّنزُّهِ. وكان إنْ فَاضَلَ بين اللّيل وبين النّهار رحَّبَ بالأوّل لقِلّة أقدام وسكونِ حركة. وتحوّلت دعوته إلى وسواس خنّاس في كلّ صدور العائلة، يُحَبِّبُ إليهم النظر ليلا في البحر وفي السّير إلى الشاطئ ويُغري الأولاد باللّعب بداية اللّيل في المتنزّه. فغلب أمرُ أخي على أمري وتغلّب شيطانه الوحيد على ما في نفسي من شياطين توسوس بالبقاء في المنزل.
وما عَزَمْنَا حتّى صرنا "بالقنطاوي" نتنزّه ويتسابق الأطفال في ملهى ألعاب إلى آخر تحاصرهم الأمّ ويصيح فيهم أخي.
كان المتنزّه غاصًّا بالأولاد والأمّهات والآباء غَصَّ الجائع المتلهّف باللُّقَمِ. أعمارٌ مختلفة وزينة وأعراس وأفراح وأسواق إمتاع وتمتّع وصَخَب البهجة والفرح والمرح. وحتّى أخي ذاك الأعرج كادت رِجْلُه تخفّ ويكاد يهمّ باللّعب وبالقفز في المَسْبَح غِبْطَةً بالنّاس واختلاطًا بهم وسماع أحاديثهم ورؤية وجوه تبتسم وتضحك وأجساد تميس وتميد وأخرى على الموسيقى تتمايلُ في حياء وغيرها قد ودّعت حِشْمَةً فتلاعَبَت دون كَلَل.
لقد رأيتُ السّرورَ في عينيْ أخي ورأيتُ الحبور يجري في جسده فأسُرَّ لِفرَحِهِ وأستزيده من الضحك بتلك التي تلحس بلسان الملعقة مثلّجًا رغم البرد من تحت نقاب ثمّ بطرفه تمسح ما عَلق على جوانب الفَمِ، تضاحكها لِحْيَةٌ طويلة كالمِخْلاَةِ تمشطها يَدٌ كانت إلى جانبي بالمطعم ترفس الخبز البائت والبيض المقليّ ومهروس الفلفل والحمص في المرَق والزيت والخلّ وتعجن اللّقمة في الفم وتحمد الله على النِّعْمَتَيْن : الحرَّ وحَرَّ حُرَّتِه المتأدّبة، ويهمس في أذنها من وراء الأستار فنسمع ضحكا كأصوات الرّجال فنضحك...
كنّا نلهو. وأخذ التّعب من أخي وطلب الرّاحة فأشار عليَّ بمقهى في رُكن من الأركان يختفي بعيدًا عن الضّجيج والضوضاء والصّخب. فقُدْتُهُ إلى مقهى كنتُ من جُلاَّسِه. فرحّبَ بنا البوّابُ وابتسمَ وأشار إلى ركن مِنه حسَنِ المنظر هادئ الحركة. فجلسنا وقَدَّمَتْ إلينا فتاة جميلة ما رَجَوْنا من شراب ماء وقهوة في أدب. وأُعْجِبَ أخي بالمكان فيه بهجة للناظرين ورَاحَة مقعد وجمال مناظر أتراب مكعّبة. وحدّثني حديثا مؤنّقا هزجًا مطربا، وأسمعته نوادر مِن أحاديث "المستودع" فضحك ضحكا كالرّعد انفلق وانطلق فجاءةً رَدَّ كلّ الأبصار إلينا ولم نَعْبَأْ وأغْرَيْنا الكلام بالنوادر فزدنا وزَادَ الضحك، أُغْرِيه بالحديث في المدير وفي "علي" فكاد ينهق نهيق الحمار الشبق ودَمَعَتْ عيْناه واضطربتْ يَدَاه وإذا بيَدٍ نَاعمةٍ تنقرُ على الطّاولة نَقْرَ العَارِف بالأصوات والألحان والنغم فخِلْنَاها تلك الفتاة الجميلة النّاعسة في الزينة تسحبنا إلى الهدوء وترجو مِنّا السّكينة فكففنا عن لعب. ومَسَحْنَا أدمع الضحك من الأعين وانتبهنا في خجل فإذا الأستاذة واقفة إلى جوار الطّاولة تنظر إلينا وتبتسم. قد تجمّلت وتحلّت وتزيّنت وسرّحت شَعْرًا وتكحّلت وتعطّرت. فهي كزجاجة عِطْرٍ إلى جانبنا قد فُتِحَتْ. ترتدي مِعْطَفًا طويلا أبيض مفكوك الأقفال. تحته ثوبٌ لِصَيْفٍ. وابتسمت وقالت :
- مَا صَادَفْتُ في حياتي خيرًا من هذا. وما سمعتُ ضحكًا كَهذا كم تمنّيتُه...
فقال أخي ( وقد سُرَّ بها سرورًا عظيمًا وغريبًا) :
- أهلا بكِ في هادم الأتراح والأحزان. وقد عُدْنا ثلاثة كما كُنَّا في المعهد، فإن شئت فاجلسي.
فتردَّدَت قليلا ثمّ أشارت برأسها. فنظرتُ حيثُ أشارت خِلْتُها تومِئ لِفَتَاتَيْها فاقبل رَجُلٌ لا يجاوز عمرها. طويل القامة. أسود اللّون. عريض الكتفين. غليظ الشفتين. حسن اللّباس جميل المطلع فقمنا نرحّب ونُسَلِّمُ ونُصَافِحُ فابتسم ابتسام المتأدّب وصافح مصافحة الكريم المتأنّق وأوْمَأَ برأسه كخدم الملوك. فعالجتنا الأستاذة تقول :
- إنّه صديقي يسمع ولِمَرض أَلَمَّ به لا ينطق.
فأسمعناه ترحابًا أُعْجِبَ به وردّ على التّرحاب بإشارة من يده على صدره.
وأردتُ أن أسألها عن الزوج وعن البِنْتَيْن فكأنّما تفطّنَتْ إلى ذلك فأسرعت تقول :
- مَنَعَ أبي عنّي زيارة والدتي، واشتاقت البنتان إلى الجدّة، فنحن بِبَيْتِها منذ أسبوع. وغضب والدي منذ قَرَعْنا بَابَه فتركنا إلى القيروان. ولستُ أدري فيم غضبه وما عُدْتُ أَعْبَأُ لذلك أو فيه أسْأَلُ. وهما تلعبان حيث يلعب الأولاد والصّبيان. وأنا مُرافِقة لصديقي وهو بي أرفق. صديقان نحن كريمان على بعضنا، كَرِيهَانِ نحن على ما كنت تقول (وأشارت إلى أخي).
فَسَكَتَ أخي سكوت المقابر.
فقلتُ لها :
- أعتقدُ أنّكِ بدأتِ الآن تصنعين لنفسكِ حدثا.
فابتسمَتْ وضحكت ضحكا كثيرًا. وكاد ذلك الأسود ينطق. وقالت :
- لقد كنت أصنعه منذ سَنَتَيْنِ. أُواعِده فينتظرُنِي ويدعوني فأستجيبُ له. ونختلسُ من المسرّة ما نُتْقِنُ.
فنظرتُ في وَجْه صديقها فأَوْمَأَ إليَّ مُصَدِّقًا وفَرِحًا. ثمّ وَدَّعانا مُبْتَسِمَيْنِ وما درينا ألَنَا يبتسمان أم علينا تضحك... وانْتَقَصَ ابتسامُها مِنْ مسرّة أخي فظهر عليه شيء من الكَدَرِ وقال :
- "تمضي الأيّام ما أسرعها"..."ولعلّها أيضا كانت تشرب وتعبُّ من حَوْضِكَ".
فقلتُ :
- بل "كانت ليلةً عاصِفَةً مُمْطِرَةً، وكان مع المطر بَرْدٌ لَمْ نَأْلَفْهُ...فيا ليتني دائما أشربُ بخيالِك...".
وذكرتُ له أنّي سأكونُ في حِلٍّ من ذلك العهد الذي قطعتُه. ونَهَضْنَا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق