المهمشين والبارود
تحت اقدام جبل الشيخ ثمة قرى منسيه واغلب ناسها مهمشين لكنهم يحييون حياتهم ويمضون ايامهم دون تبرم هناك تجد كل صباح ومع اشراقة الشمس
ابو امينه بقمبازه ومعطفه الشتوي العسكري الممتلئ بالزبيب والقضامه"حمص"ومعه (المغبط وجانبين )وآخرين من كبار السن يجلسون على دكة حجرية عند ساحة القرية الفوقى لصق جدار (ابو عيس) مقابل دكانه زيتون يتدفئون بالشمس ويتبادلون الحكايات يتذكرون ايامهم حين كان المتخاصمون من عوائل القرية كل يحتمي بواجهة من واجهات الجبل ويتراشقون بالحجارة وعند المساء يغادرون الجبل كل الى بيته وقد نفسوا عن غضبهم ،لابل سرعان مايتصالحون ،ويتعاونون معا على البيدر في درس القمح ،ولمزيد من نزع الخلافات فيما بينهم ،يقدمون على المصاهرة بتزويج ابنائهم من خصوم الامس ،فتقام حلقات الدبكة وتنحر الذبائح.. الاتذكرون كيف يصدح ابا عماربصوته عند الدبكة
على دلعونا وعلى دلعونا
حكايتنا صارت اعقد ما يكونا
من يوم وعينا وإحنا بنكتبها
وفي ناس بتشطب تا يقهرونا
على دلعونا على دلعونا
ليش اتقسمنا وليش قسمونا
والناس بتطلب وين اللي يلبي
وحدتوا الله ماتوحدونا
على دلعونا وعلى دلعونا *** اهلا ومرحبا يللي اجونا
والله ايام قالها ابو امينه وتنهد جانبين وفرك يديه المغبط متحسرا على ماضي يعبق برائحة الطيبة والبساطة،. الان يتراشقون بالرصاص ياحسره ..
وفيما هما يستذكران ايام زمان ويقلبان صفحاته واحدهما يذكر الاخر عن زواج فلان وعن موسم القحط الذي حل ذات شتاء وسرقة بقرات بيت سعيد..وكيف كانت النسوة تخرج للجرود عند الجبل للاحتطاب وتوفير مونة الشتاء،وما احلى منزول عبد اللطيف زيتون (مضافة)..وبينما هم منهمكين في حكايات ماض مضى ، يفاجئهما نجيب وهو يخرج من دكانه حاملا (جفت )لعله يصطاد ذلك الجرذ اللعين ، اين ذهب ..اين ذهب وهو ينظر بين شقوق الحجارة الجبلية التي شكلت جدار بيته(اللعنة اخو الشليته ساصطادة يوما)تمتم وهو زعلان،فيما ابو امينه وصحابه تأخذهم نوبة ضحك من حالة نجيب ..وهو يتلفت يمينا وشمالا وبيده بندقية الصيد.
تخرج امرأته الفارعة الطول وتناديه "مالك يارجل ..خلاص ادخل تعا افطر" وهات معك علبة سكائر وبطريقك نادي على فاسم من تحت قبل ان يذهب لملء الماء من العين ،ستجده يعلف الحصان..
فيما يمرق تركتور "ابومدحت " مقاول الانفار مسرعا وقد امتلاء بالصبايا للعمل في حقول الزراعة عند الاخرين بالسهل المترامي الاطراف او بالذهاب لقطاف التفاح في موسم التفاح،وهن في هرج ومرج يلوحن بشالاتهن الملونة فرحا وكأنهن ذاهبات في نزهة حيث المروج الخضراء على مد البصر والنسيم العليل بعيدا عن رائحة البقر والأغنام في القرية.
وأبو عيسى يذهب لتحميل الباطون (بلوك)القريب من دار ابو ظاهر صاحب المعمل بمعية عبد الرحيم ابو مريم
ومن اطراف القرية تسمع صوت ابو علي الغنام الجهوري وهو يسوق بعصاه عنزاته باتجاه سفح الجبل .. فيما تأتيك مع الهواء رائحة القهوة التي يعدها "طراف "الرجل المقعد الممتليءحكمة ووقار يفرض نفسه على كل من يراه..بينما تجد"اللولو" بملابس رثه في بيت حجري فارغ اقرب للزريبة منه الى البيت حيث شبابيك مفتوحة ولا يوجد باب ،ولا انارة او حتى ماء وحيدا يتناول ما يجود به الناس اشفاقا عليه لأنه فاقد العقل لكنه غير مؤذ ويكاد يعرف الجميع دون ان ينطق وإنما يومئ برأسه او يفتح فمه مبتسما كنوع من التحية وفي احيانا كثيرة يفهم الناس هنا مايريد من ايماءة عينية او وقفنه .كان وحيدا يجول يوميا في دروب القرية بدشاشة وسخة وجاكته اكثر وساخة وقد برز من جيوبها بقايا من طعام ،ويقال انه لم يبقى له اهل يعتنون به وكل مالديه اخ اكبر منه يعيش مهاجرا في امريكا .. .اللولو المسكين وجد ذات شتاء في زريبته ميتا والجرذ يأكل من رأسه ..
وعلى الجهة المقابلة من "خرابة اللولو"وبموازاة شارع اسفلتي ضيق يطالعك حوش جميل مرصوف بحجارة جبلية لكنه غير مسور وفي وسط الحوش ثمة بقرات واشجاروعلى اليمين منه اقيم سلم حجري يؤدي الى غرفة فسيحة للضيوف وغرف اخرى لآهل الدار حيث ذاكرة المكان جودت ابو نمرة وهو يقرقر بالنرجيلة كوجبة افطار صباحي ..وكثيرا ماطل برأسه مناديا اي مستطرق على الطريق "يا ابو مريم تعال للترويقة، ياعلي برو عاوزك شوي ، ويااستاذ ر شدي اصعد بدي احكي معاك ..وهكذا لابد ان يجمع عددا لاباس به من ابناء القرية ليشاركوه وجبة الافطار وهي عادة لاتخلو من البيض المسلوق والزيتون والزعتر والحليب والكشك والخبز المرقوق"..ابو نمري هذا الرجل الخمسيني المربوع القامة بمناسبة ودون مناسبة لايخفي افتخاره بمساعدة رجال المقاومة عبر نقل الاسلحة لهم في الطرقات الجبلية التي يحفظها عن ظهر قلب وانه كثيرا ماجعل من بيته ملاذا لخزن الاسلحة وإيواء المقاومين يوم كانت المقاومة الفلسطينية خلايا سرية تؤسس لها مواقع في البلد ..
ومع اشراقة كل يوم ترى الصبي حسين رزوق سائرا في دروب القرية المتعرجة يتمتم بلغة شبه مفهومة ترافقها تاتاه محببة وهو يدور حاملا العلكة وعلب سكائروخرز ملونه وأوراق يانصيب لعلة يلتقط رزقه وإذا لم يصادفه الحظ يغادر القرية نحو مناطق اخرى ولا يعود حتى يفرغ ما في حقيبته مساء ولو باع ماباع للبعض بالآجل(التقسيط).
وحين لاتكون معه اشياء للبيع تراه يقف بالقرب من نقطة الحدود وبواباتها قرب مخفر الدرك وقد افترش صناديق الفاكهة من عنب الى كرز وتفاح بل وحتى صرافة نقود وتبديل العملة .. .ومع ان البعض يقول عنه(هبيلة)الا ان الغالبية تجمع انه شاطر ويعرف كيف يصطاد رزقة وهو في كل الاحوال افضل من كثيرين في القرية يقضون نهاراتهم في لعبة الورق(الشدة) واحتساء الشاي والقهوة وكثيرا ما ابدى شجاعة فائقة وحرص شديد للذهاب مع عطا وعمر والرجال وبعض النسوة على ظهور الخيل والتسلل ليلا عبر الطرق الجبلية للمنطقة الحدودية لبلد مجاور لجلب المازوت والسكر والشاي وأية مواد ارخص سعرا مخاطرين بحياتهم وربما تعرضهم للاعتقال على يد قوات الدرك(الشرطة)، التي كثيرا ماتنصب الكمائن للمهربين ولكن الحصول على اللقمة كما يقال ليس سهلا ولهذا لابد من المجازفة وركوب الصعب لتأمينها .
ولان البعض يحلم بمغادرة وضعه البائس لم يجد طريق سوى المزيد من المغامرة في عمليات التهريب عبر المنطقة الجبلية حيث وجد البعض ان جني مال اكبر يمكن ان يتم عن طريق تهريب السلاح من والى خاصة وهناك طلب متزايد على شراء الاسلحة في ظل الاوضاع التي تعيشها البلاد..بل وحتى تهريب الناس
ولذلك لم تعد الوداعة نجم المكان بعد انتشار (البواريد) وطغيان لغة المصلحة اولا
فاصبح التراشق بالرصاص علامة فارقة لأي ملاسنة بسيطة بين هذه العائلة او تلك ..ولم يعد المسجد الذي تعاون على بنائه كل ابناء(الضيعة)جامعا للجميع بعد ايقاد السياسين لنار الفتنة بلغة المذاهب ..والمهمشين يدفعون الثمن من ارواح ابنائهم حيث قتل من قتل واحرق ما احرق من منزل ..في وقت ما من اعوام الانتخابات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق