دراسة تحليلية في القصة القصيرة
"من معلقات جالاتيا"
الاديبة : زينب بوخريص
حلق الوادي/ تونس
نص القصة :
ذات صباح ربيعي ملهم، استفاقت باكرا، كانت الوانها تبهت ، والاطار يفقد بريقه ، راحت تبحثت عنه بعينين حائرتين ،رأته كما هو عليه منذ عدة ايام خلت ، منهمكاً برسم لوحته الجديدة، عازفاً عنها ،غير آبه لوجودها،،،ثارت حفيظتها، أضطرمت نيران الغيرة في قلبها. تساءلت فيما بينها وبين نفسها:
( تُراه ملَّني و انطفأت في فؤاده جذوة هيامه بي ؟ أم هو حب جديد يشغله عني كعادته ؟ ، لا كفاني سكوت ، ماعدتُ اطيق هذا الجحيم)
لاول مرة تشعر ان الزجاج الذي اقامه بينه وبينها يتكسر على وقع زفراتها المتسارعة ، فخاطبته بكل ماوأدته في اعماق روحها من لوعة :
-هل شغلتك لوحتك الجديدة عني؟ أراك مهتما بها دون سواها؟
هل تيمك حبها، فأنستك هيامك القديم بي ؟؟
اصابه الذهول مما سمع ،رمقها بنظرات مستفهمة، فأضافت:
- كم تركتني حبيسة سردابك المظلم الآسن، لاأميز فيه بين الليل والنهار،، أدغشت حياتي .. لم ألمح من النور ،إلا ومضات تسربها اليَّ ثقوبٌ غفلت عن اخراسها في سقفه ، وكثرما نسيتني هناك تخنقني عفونته ، ورطوبته تكتم أنفاسي . حتى بهتت ألواني الزاهية ، و سرق بهجتها القتام.
نظر إليها غير مصدق ماتناهى إلى مسامعه.
استرسلت وعبرتها راحت تترقرق :
- اتذكُر .. كلما كنت تخرج من المنزل توصد دوني الابواب ، لأظل وحيدةًأجتر حزني وألمي،أرزح تحت نير سأمي و مللي. وددت لو رافقتك مرة واحدة في سفرك وما اكثر اسفارك ، كى اشعر بانتمائي للحياة و أعانق الوجود ....لكنك تصر دائماً على أن تقيدني بهذا الإطار الذهبي، المزخرف.
أنت تعرف أني أتوق إلى المعالي. فلماذا تصادر طموحي؟؟؟ تحشرني في زاوايا لااباليتك حين لاتحتاجني ، أو تصلبني على جدران اهمالك الخرساء .
استفزه كلامها، فقال لها مستنكرا:
-حرصت على اصطحابك معي إلى كل معارضي، كنت أتباهى بجمالك الأخاذ. تمسكت بك ولم أتنازل عنك رغم كثرة الإغراءات، كل ذلك لأني أحبك جدا.
أجابته بلهجة واثقة:
-كلما أثثت بي أروقة معارضك أحسست بالذل والهوان في نظرات مدعويك نحوي ، كلها تنضح مزيجاً غريباً من الإعجاب والدناءة. يحاصرونني بوقاحة ... متفحصين ثنايا جسدي... كأنهم ينهشونه بلمساتهم ومداعباتهم حتى أكاد أصرخ من حقير افعالهم ...
تدعي الإباء و الشموخ...و ترضى بامتهاني ؟؟
أمضيت أياما بلياليها بل أعوام تتفنن في رسمي ،أنا سليلة مجد، بعد قصة حب عجيبة بينك وبين فرشاتك. انتقيت ألوانك المفضلة ثم مزجتها بخيالاتك الفياضة شهوة . لتنجب صورتي حسب مقاساتك انت ، بعد ولادة متعسرة.
أجابها مستغربا:
-أنت تقرين اذن بحبي لك و تعبي في خلقك؟
ـ إذا كنت تحبني فعلا، فلماذا تقيدني ، انت تحب ذاتك فقط ، تتودد الي حين تشتهي قضاء حاجتك مني ، خلقتني من اجلك لا من اجلي ...
أود ترشف قهوتي الصباحية معك... نصغي معا إلى موسيقى الوجود...أتوق إلى ضمك طويلا ... أتوسد ذراعك و أفترش صدرك الوثير: أصيخ الى دقات قلبك و أرقص على ايقاع نبضك الجميل.
ثم انطلقت منها صرخة هادرة:
ـ انا ارفضك ، ارفض قيودك الذهبية ، سأحررني منك ومن هذه اللوحة اللعينة!
استيقظ فزعا،،، ألفى نفسه في مرسمه. نظر إلى لوحتها ، وجدها قد تمزقت.
................
الدراسة :
*********
المبدع الحقيقي موقف من الاشياء ، ومنها عدم انسياقه وراء النقل والتقليد الاعمى لآثار ونتاجات (فن -ادبية) لها حضورها المشرق في الذاكرة الانسانية الثقافية
، ليوهم اشباه المثقفين من قراء وبتواطؤ نقاد مدعين او مأجورين ، بابداعه المنتحَل ، بحثا ًعن شهرة زائفة اومكسبٍ مادي او معنوي رخيصين ، فبهذه الموقفية تتأكد حقيقة الذات الابداعية الملتزمة ( اعني بهذا ان ذات المبدع ملتزمة برؤاه ومشروعه
الابداعي حسب ) والقاصة زينب تعاطت بموقفية ملتزمة مع حكاية ( بجماليون ) وهي من الآثار الادبية الشهيرة في الميثولوجيا الاغريقية ، مازالت ثيمتها الى الوقت الحاضر تعالج مسرحياً سينمائياً ، باشكال واساليب فنية معاصرة ، لكن دون المس بأصل الفكرة (البجماليونية ) وهي عشق صانع الجمال لما صنعه ( اعني هنا عشق
النحات لتمثال امرأة اسماها لاحقاً جالاتيا ) ، فالقاصة بالتزاميتها الرؤيوية قلبت المعادلة وجعلت المعشوقة هي العاشقة للفنان الذي اوجدها من خياله ،مع تغيير وصف البطلين حيث جعلت النحات رساماً في قصتها ، والتمثال صورة مرسومة من قبله مبقيةً على اسمها ذاته ، فما السر الكامن وراء قلب مضمون ومعنى اسطورة بهذا الزخم من العالمي من الشهرة والاشتغالات الفنية الواسعة عليها
، ولأيةغاية ...؟
نبدأ بعتبة القصة العنوانية ( من معلقات جالاتيا )
باحثين عن مفتاح لفك مغاليق النص للعثور عن اجابة لذالكما السؤالين
بنية العتبة الدلالية :
ـ المعلقات : اشارة ذات سياق مقامي خارجي / الادب الجاهلي
ودلالتها المعنوية : تلك القصائد العربية الجاهلية الطوال التي كانت تعلق على الكعبة .
المقاربة الدلالية لها مع تضايفها مع جالاتيا : موضعة جالاتيا
مكانياً في البلاد العربيةً ،اي ان القاصة جاءت بهذه الاشارة بقصد الايحاء للقارئ ان بطلة قصتها عربية الهوية والمكان ولاشأن لها بجالاتيا لاغريقية .
والاشارة مسبوقة بحرف جر ( من التبعيضية ) للتدليل على ان القصة ستستعرض جانبا محدداً من الصراعات ( الحياة / وجودية )المستعرةفي اغوارالذات الداخلية للبطلة ، وما جعلنا نقرر انها ( صراعات ) بهذه البنية النفسية المتوترةانفعالياً ،هو مقارباتها المعنوية للبنى الدلالية والتركيبية لصراعية مضامين عموم المعلقات
حين نلج لعالم المتن وبمرور سريع عليه نكتشف ان القاصة اختارت فضاءً لايوحي بأي اثر او اشارة لمجال مكاني عربي السمات والدلالات ، بل هو مؤثث بعناصر وادوات فنية متعلقة بفن الرسم ( لوحة ، اطار معرض ، فرشاة ، الوان ) ثم ذكرت صراحة في المقطع الاخير من قصتها ان الحيز المكاني لهذا الفضاء هو ( مرسم )،
وهو مكان يتوازى اشتغالياً ابداعياً ، مع الفضاء المكاني للاسطورة ( مَنْحَت / اسم مكان من نحت ) ، ولعل حرص القاصة على ايجاد توازٍ بين فضائي حدثها القصصي
والحدث الحكائي لتلك الاسطورة هو ماحملها على اختيار ( المرسم ) كمكافئ مكاني للمنحت ، فهي قاربت بينهما دلالياً ( كلاهما مكان للخلق الفني )، ولم تماثلهما وصفاً و نتاجا ابداعياً )حيث ان هناك فروقات ظاهرية تشكيلية وتركيبية بين ماينتجه المرسم / صور ، وماينتجه المنحت / تماثيل ) وذلك لسببين :
- الحفاظ على الجو العام للاسطورة التي وظفت القاصة رمزية بطلتها
جالاتيا ( الانثى التي اوجدها/ خلقها انسان وفق مواصفاته الجماليةلاشباع حاجاته البايو حياتية )كمرتكز دلالي لفكرة قصتها
- شيوع ومألوفية ( المرسم ) في الحياة الثقافية العربية مقابل
ندرةولاانتشارية ( المنحت ) كمكانين للاشتغال الفني
القاصة اذاً هيأت مسرح / ميدان الصراع ، لعرض فكرتها وسيرورتها الحدثية ، وهو كبناء شكلي اغريقي يماثل ميدان صراع الفكرة البجماليونية ، اما قصديته المضمونية فتعالج موضوعة ( الذكورة ) المهيمنة على وعي الرجل العربي في فوقانية تعامله مع المرأة كما سيكشفه متن النص في سيرورة حدثه القصصي .
بذا عرفنا المفتاح الذي هيأته العتبة العنوانية ، ليساعدنا على فتح مغاليق النص والتعرف على حقيقة مقاصده ومن ثم معناه النهائي
بنية القصة الفنية :
يتكئ اسلوب القصةعلى عنصرين رئيسين / ساقوم باستدعاء الشواهد النصية الموازية دلالياً لما سيتولد عن تحليل وتفكيك هذه البنية من مقاربات معنوية :
1ـ الحوار : يحل في هذه القصة محل (السرد) في وظيفة الابلاغ عن مضمونها وعرض احداثها والقاصة اختارت ان تبدأ قصتها من ( ذروتها ) الحدثية ( العقدة ) التي تسبقها بالتوطئة ادناه ،( الفاصة استخدمت ضمير الغائبة / الهاء ، كي تكون محايدة في وصفها الاحداث وبطلتها في هذا المقطع والمقطعين التاليين له ) :
(( ذات صباح ربيعي ملهم، استفاقت باكرا، كانت الوانها تبهت ، والاطار يفقد
بريقه ))
يرسل هذا المقطع رسالة فالصباح الربيعي اشارة الى تفتح وديمومة الحياة ، يقابلها بداية افول شباب وحيوية البطلة / اشارتهما : شحوب الالوان و فقدان البريق ، بهذه الاشارات مهدت القاصة للتوتر الحدثي التالي :
(( رأته كما كان عليه ، منذ عدة ايام خلت ، منهمكاً برسم لوحته الجديدة، عازفاً عنها ،غير آبه لوجودها،،،ثارت حفيظتها، أضطرمت نيران الغيرة في قلبها ، تساءلت فيما بينها وبين نفسها ))
التوتر السابق يبدأ بتحديد ملامح الذروة في هذا المونولج الداخلي :
(( تُراه ملَّني و انطفأت في فؤاده جذوة هيامه بي ؟ أم هو حب جديد يشغله عني كعادته ؟ ، لا كفاني سكوت ، ماعدتُ اطيق هذا الجحيم))
والذي اسقط حاجز عزلتها الابكم ، فاصبح صوتها مسموعاً :
(( ولاول مرة تشعر ان الزجاج الذي اقامه بينه وبينها يتكسر على وقع زفراتها المتسارعة ، فخاطبته بكل ماوأدته في اعماق روحها من لوعة ))
2ـ شخصيتن مشفّرتي الدلالة:
الاولى الشخصية الرئيسية ( المحورية ) / صورة جالاتيا وهي بطلة القصة ، وقد أنسنتها القاصة مستخدمة ضمير المتكلمة( تاء الفاعلة ، انا / الظاهر والمستتر ) ، لتسرد على لسانها وقائع و فكرة قصتها من خلال اشراكها في حوار مع الشخصية الثانية الثانوية / الرسام ،
ولنتوقف قليلاً لتفكيك شيفرة هاتين الشخصيتين واستدعاء الشواهد النصية الموازية معنوياً لما سيتولد من تفكيكنا من دلالات :
وسأبدأ بشخصية الرسام لغاية ستتضح لاحقاً
الاشارة / رسام : لها دلالة سياقية فنية ، فهي صيغة مبالغة من / رسَمَ
والرسم : فن تصوير الاشخاص و الاشياء المرئية، اما
بمحاكاة منظورهما في الواقع ،او ابتكارهما من نسج خياله ، وهنا يكون الرسام ( خالقاً وموجِداً ) لأشكاله الصورية ،
وبالاحالة داخليا على بجماليون / تمثال جالايتا ، تغدو دلالةالرسام هنا( خالق / موجد) لصاحبة الصورة،
وبالافادة من مفتاحية العنوان / جالاتيا = امراة عربية
يكون الرسام هو الرجل العربي الذكوري الذي يتحكم بوجود المرأة ويشكل حياتها، فهي في نظره محض صورة / جسد :
((ـ أمضيتَ أياما بلياليها بل أعوام تتفنن في رسم صورتي ))
وقبل ان تسترسل تدس القاصة بذكاء هذه الجملة خارج السياق القصصي ليبلغ التوتر مداه :
(( فأنا سليلة مجد ))، لتذكِّره انها انسانة حرة ، ذات عِزَّةٍ ورِفعة وشرف
والمعنى المسكوت عنه هنا : ليس للرسام اي فضل في حقيقة وجودها ومعناها الانساني .
ثم يعود الحوار الى سياقه لتستأنف حديثها مذكّرةً اياه انه اوجدها وفق ضوابطه الجمالية العصية التحقق / بلغ التوتر ذروته :
(( بعد قصة حب عجيبة بينك وبين فرشاتك. انتقيت ألوانك المفضلة ثم مزجتها بخيالاتك الفياضة شهوة . لتنجب صورتي حسب مقاساتك انت بعد ولادة متعسرة ))
،ولانه يعتبرها من ممتلكاته الخاصة ، فهو يعزلها عن عالمها الخارجي ، بسجنها في قبو محرماته المعتم الضيق الحدود / تكافئ دلالة اطار اللوحة :
(( - كم تركتني حبيسة سردابك المظلم الآسن، لاأميز فيه بين الليل والنهار،، أدغشت حياتي .. لم ألمح من النور ،إلا ومضات تسربها َ ثقوبٌ غفلتَ عن اخراسها في سقفه ، وكثرما نسيتني هناك تخنقني عفونته ، ورطوبته تكتم أنفاسي . حتى بهتت ألواني الزاهية ، و سرق بهجتها القتام.
نظر إليها غير مصدق ماتناهى إلى مسامعه.
استرسلت وعبرتها راحت تترقرق :
- اتذكُر .. كلما كنت تخرج من المنزل توصد دوني الابواب ، وحيدةًأجتر حزني وألمي،أرزح تحت نير سأمي و مللي.. كم وددت أن أكون رفيقتك حينما تسافر بعيدا،، كى أرى وجوه الحياة و أعانق الوجود ....لكنك تصر دائماً على أن تقيدني بهذا الإطار الذهبي، المزخرف.))
0وهو يذهّبَّ ذلك الاطار متوهما انه بهذا سيخفف عليها من ثقل قيده :
((..لكنك أصررت على أن تقيدني بهذا الإطار الذهبي المزخرف ))
ويتباهى بنفيس جمال ما ( يمتلك ) بين اقرانه ً،دون اكتراث لانسانيتها وكرامتها :
((-حرصت على اصطحابك معي إلى كل معارضي، كنت أتباهى بجمالك الأخاذ. تمسكت بك ولم أتنازل عنك رغم كثرة الإغراءات، كل ذلك لأني أحبك جدا.
أجابته بلهجة واثقة:
-كلما أثثت بي أروقة معارضك أحسست بالذل والهوان في نظرات مدعويك نحوي ، كلها تنضح مزيجاً غريباً من الإعجاب والدناءة. يحاصرونني بوقاحة ... متفحصين ثنايا جسدي... كأنهم ينهشونه بلمساتهم ومداعباتهم حتى أكاد أصرخ من حقير افعالهم ...تدعي الإباء و الشموخ...و ترضى بامتهاني ؟؟ ))
وحينما يتظاهر بحرصه على حبها ، ترد عليه متهكمة فاضحة حقيقة خلقه اياها:
(( ـ إذا كنت تحبني فعلا، فلماذا تقيدني ، انت تحب ذاتك فقط ، تتودد الي حين تشتهي قضاء حاجتك مني ، خلقتني من اجلك لا من اجلي ...))
وتؤكد عدم تقديره قدرها وانتقاصه من قبمتها الانسانية :
((أنت تعرف أني أتوق إلى المعالي. فلماذا تصادر طموحي؟؟؟ تحشرني في زاوايا لااباليتك حين لاتحتاجني ، أو تصلبني على جدران اهمالك الخرساء ))
اما حاجاتها ورعباتها العاطفية المشروعة، فلايجوز لها الافصاح عنها فهذا يتعارض مع سياق الاعراف الاجتماعية فهي ( مخلوقة)كي تلبي حاجات خالقها فقط :
(( ـ أود ترشف قهوتي الصباحية معك... نصغي معا إلى موسيقى الوجود...أتوق إلى ضمك طويلا ... أتوسد ذراعك و أفترش صدرك الوثير: أصيخ الى دقات قلبك و أرقص على ايقاع نبضك الجميل ))
وتقرر اعلان ثورتها عليه وتحرر من قيوده القاسية / حل العقدة :
((ثم انطلقت منها صرخة هادرة:
ـ انا ارفضك ، ارفض قيودك الذهبية ، سأحررني منك ومن هذه اللوحة اللعينة!
استيقظ فزعا،،، ألفى نفسه في مرسمه. نظر إلى لوحتها ، وجدها قد تمزقت.
البنية الزمانية للغة النص يتداخل فيها الزمن الماضي والمضارع مما يعني تليد فكرة الذكورة في التاريخ العربي واستمرارية هيمنتها على الوعي الجمعي حتى الوقت الحاضر ..
ـ باسم عبد الكريم الفضلي العراقي ـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق