التحدي والأستجابة
بقلم/ حسين عجيل الساعدي
يقول عالم النفس السلوكي الألماني"كارل غوستاف يونغ" (1875/1965)، أن الفرد عندما يتعرض لصدمة ما يفقد توازنه لفترة ما ومن ثم قد يستجيب لها بنوعين من الأستجابة. الأستجابة الأولى هي النكوص الى الماضي لأستعادة التوازن والتمسك به بديلاً عن واقعه المر، فيصبح أنطوائياً، وهذه الأستجابة تسمى (أستجابة سلبية). أما الأستجابة الثانية هي قبول الصدمة والأعتراف بها، ثم محاولة التغلب عليها، فيكون في هذه الحالة أنبساطياً وهذه الأستجابة تسمى (أستجابة أيجابية).
وعلى أساس هذه النظرية أقام المؤرخ والفيلسوف البريطاني الشهير "آرنولدتوينبي" (1889/1975)، في صياغة نظريته في نشوء الحضارات والذي أسماها (التحدي والأستجابة)، وقد ذكرها في كتابه الكبير (دراسة للتاريخ)، الذي يقع في أثني عشر مجلداً، وخلاصتها أن الحضارة لا تنشأ إلا حيث تكون البيئة صالحة لتحدي شعب ما، ويكون هذا الشعب على أتم الأستعداد للأستجابة لذلك التحدي، ومن مصاديق هذه النظرية تمثلت في الدولة اليابانية الحديثة التي درست عيوبها وخططت لمستقبلها وإنتقلت من دمار القنبلة الذرية إلى ماهي عليه اليوم من الإبداع في التقدم التكنولوجي والمعرفي.
بعد هذه المقدمة الموجزة، لنضع زيارة أربعينية الأمام الحسين (عليه السلام) ضمن مقاييس هذه النظرية حتى نشخص من خلالها نوع الأستجابة التي تشهدها هذه الزيارة الأربعينية في ضوء التحديات التي تواجهها في كل مرة. في السنوات الماضية كان خطر الإرهاب من أقوى التحديات التي تواجهها، ثم جاءت جائحة كورونا التي شكلت تهديداً وتحدياً للوجود البشري عموماً، ووضعت الزيارة الاربعينية امام تحدي يكاد أن يكون أشد وطئة من الإرهاب، وظن البعض أن هذا التحدي سوف يكون عائقاً في أداء طقوس هذه الشعيرة، رغم الدعوات التي تنادي بخطورة الوباء وتداعياته على المجتمع، ولكن جاء الرد سريعاً حين أنطلق ركب المسيرة من أقصى الجنوب ومن الجهات الأخرى، دون خوف أو وجل عما تكون عليه النتائج.
أما التحدي الاخر الذي لا يقل ضراوة عن سابقيه، هو الهجوم الفكري والاعلامي بكل تلاوينه، المقصود من قوى عالمية تريد ان تعبث بهذه الشعيرة، فتفرغها من محتواها الديني والعقائدي لغرض قطع الصلة الروحية بين الجماهير المؤمنة وثورة الامام الحسين (ع)، وانهاء التاثير الكوني لهذه الثورة.
وإذا أردنا أن نستطلع المسيرة الأربعينية لزيارة الأمام الحسين (ع) منذ سقوط النظام وليومنا هذا، نلاحظ أن كل عام والجماهير المؤمنة تهب وتستجمع كل قواها لغرض مواجهة هذا التحدي حتى تتغلب عليه.
ولو أخضعت هذه الزيارة وفق مقاييس هذه الاخطار التي تحيق في أي مجتمع من المجتمعات عندما تتعرض عقائده الى مخاطر من هذا النوع، فأن هذه المجتمعات سوف تنكفئ على نفسها ويصيبها الوهن في أداء طقوسها الدينية، لأنها تتوقع الكثير من التهديدات الأرهابية، والظروف المناخية القاسية سواء كانت شتاءً أم صيفاً، وتثبيط عزم الجماهير من اداء هذه الشعيرة، إلا أن الجماهير المؤمنة لم ولن تثنيها هذه المخاطر ، بل ارادت أن تقول أننا أمة حية مؤمنة بدينها ورموز دينها وقدرتها على أن تحيي طقوس ومهما كلف الأمر من تضحيات، المهم أن رسالة الأمام الحسين (ع) ينبغي أن تستمر المسيرة صوب كربلاء في رفض الظلم والطغيان والدعوة للإصلاح، لترفد الثورة الحسينية وعلى مر التاريخ بالدماء من أجل أن تبقى على مدى الزمان صرخة مدوية في وجه الظلم والطغيان. لقد ورد في الرواية عن الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً).
إن المسيرة الحسينية أعطت تأكيد لنظرية "توينبي" وهي أنه لا يمكن أن يكون هناك أستجابة إيجابية واعية دون وجود قاعدة أيمانية صلبة لا يمكن لها أن تلين أمام هذه التحديات من خلال أيمانها المطلق برسالة الأمام الحسين (ع) ووقوفه بوجه الظلم والتضحيات التي قدمها هو وأهل بيته (عليهم السلام) وصحبه (رضوان الله عليهم) من أجل أعلاء كلمة (الله أكبر) الذي أراد الأجرام الأموي أن يسقطها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والمنافقون والمبطلون والكارهون والظالمون. أن مسيرة (الأربعينية الحسينية) بعثت رسالة الى كل قوى الأرهاب والظلم أن جبروتهم وطغيانهم وغطرستهم لن تثني الجماهير المؤمنة من إداء دورها الأصلاحي الذي رسمه اليها الأمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وسوف تبقى عاشوراء وشعائرها المقدسة صرخة مدوية بوجه الإرهاب.
لقد أعطت الزيارة الأربعينية الدروس العملية والواقعية للإنسانية جمعاء في التضحية والفداء بكل غالي ونفيس ونكران الذات لترتقي بإنسانية الإنسان الى السمو والأرتقاء نحو ذرى المجد والسؤدد والرفعة، وأن الأهداف النبيلة تتطلب التضحية من أجلها ومهما بلغت هذه التضحيات وحجم التحديات، وبما أن الأستجابة للتحدي كانت ناجحة فأن قيم الحق والعدل سوف تكون هي السائدة ويكون سر نجاحها (الدافع الحيوي)، كما أسماه "توينبي" وهو الطاقة الكامنة لدى الفَرد والمجتمع التي تنطلق بغرض التحقيق الذاتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق