تصدير:
الأدب الحي هوالذي ينبثق من المجتمع وهمومه وتوقه للتغيير والحرية. والأدباء هم رُسل المجتمع يهدون البشر بما يمتلكون من قدرات ومواهب ، ويكون دورهم تحريضيَّاً دون أن يخرج عن إطار ومقومات العمل الفني. وتتطلب رسالة الأديب قسطاً من الحرية، و زاداً معرفياً كي يغنيَ تجربته ويعمق رؤيته للمجتمع وللإنسان، بقلمٍ يسعى لكشف الزيف وترسيخ قيم الخير والحق، سعياً لبناء مستقبل أرحب. أمامنا نصٌّ بديع ذو سمة كيانية وجودية توحي بها العتبة: (مصير) منذ البداية. و(مصير) هي مصدر لفعل (صار) أي تحول من حال لحال، وللمصير هنا معانٍ موحية ،أذكر منها حق "تقرير المصير" ومعناه حق الشعوب أن تقرر بنفسها نظام الحكم في بلادها، واتجاه سياساتها وعلاقاتها مع سائر الدول، دون اللجوء إلى سياسة خارجية. والغريب في عالمنا اليوم، هو طغيان الهيمنة على إرادات الشعوب،بسبب ما ابتدعته العولمة من أحقيتها في تقرير "مصائرهم "عن طريق القوة والاستعمار بكافة وجوهه الظاهرة والخفية. سأبدأ بالكلام على الزمكانية، الزمان هنا ليس زماناً واحداً، إنما نحن أمام أزمنة متعددة متداخلة بعضها البعض الآخر،مما يحسب للكاتبة من حنكة تقنية حديثة في نسج الحبكة الدرامية،عبر لعبة الاسترجاع الزمني "(الفلاش باك) حيث تنتقل بنا من زمن إلى آخر بسهولة بالغة وتصل إلى النهاية بحركة دائرية، أي بعَود إلى البداية ،مما يعطي السرد ديناميكية وتشويقاً ،فلا يحس المتلقي بالملل وإنما يلاحق الحدث القريب أو البعيد بنفس الشغف
. المكان :تعددت الأمكنة بتعدد الأزمنة وتداخلها، بدءاً من مرتع طفولة البطل ونزوح أهله القسري عن ديارهم وتشريدهم،وعبر الذكريات والتداعيات، يستطيع المتلقي أن يتكهن الأماكن التي كانت ممراً أو مقرا للبطل.
الشخصيات: البطل / الراوي هو الشخصية الرئيسية في النص والتي نحس أن الكاتبة تنقل إلينا آراءها من خلال سرده للأحداث،وبلغة قريبة من السهل الممتنع متقشفة المجازات،تعبِّر عن الناطق بها خير تعبير. الشخصيات الأخرى الرئيسية : هي شخصية الأم والأب ، وشخصيات ثانوية أخرى لأقرباء البطل بقيت وشماً لا يمحى من عبق الطفولة والكينونة في وطنه الأصلي. وفي النص حضور ظلامي ل (خفافيش الظلام) الذين سببوا ضياع وتشريد العائلة وفقدان الهوية الوطنية والتاريخ،ذاك التاريخ الذي يقضُّ فقدانُه مضجع البطل ويهدُّ كيانه. التصوير الدرامي للبطل : بدءاً من عتبة الاستهلال نعرف أن (الكل يشغلهم وضع البلاد والفوضى التي بثها الأوغاد) التي كانت السبب في تلك المأساة الوجودية التي تسردها لنا الكاتبة على لسان البطل، بدءاً من طفولته وتشرده في الأمكنة عبر أزمنة السرد المتعالقة في النص . وقد عرفنا من خلال الأحداث المتفرقة، كمَّ المعاناة التي أحسها البطل هو وأمه وأباه ، وأنهم احتموا في البداية بدير كردي ل (حاييم) الأب، ودمرت كنائسهم و"سطا غراب أسود على تاريخهم" ورغم أن العائلة أبحرت بعدها في زورق مدة طويلة، واستقرت وأكملت حياتها، إلا أن البطل ، ظل مسكوناً بقلق وجودي لا يبارح مخيلته، وأصبح مهووساً في البحث عن "التاريخ" الذي برأيه "لا يولد مرتين" لأنَّ فقدان التاريخ هو "فقدان أزلي " كما أنه بقي فاقد الانتماء للوطن البديل، رغم كل التقديمات التي حظي بها وأكمل تعليمه وتزوج وأنجب . وهذا واضحٌ من خلال الحوار الذي دار بينه والمرأة الشقراء بقوله: "لست ناكراً للجميل، لكني أريد تاريخاً بدل الذي سرقوه مني". "حضارة تكنولوجية حديثة قامت على جماجم السكان الأصليين وسرقة ثروات الآخرين" حتى " كنيسة الإنسان" الفخمة، الحديثة المرصعة ب"صلبان من الذهب" والتي يؤمها كل الناس من مختلف الألوان والأطياف،وتتلى فيها الأدعية الدينية بكثرة، لم تعنِه،ولم تحرك فيه "عبق التاريخ" كلُّ الأبخرة التي تشمَّم عطرها" فظلَّ يقول: " أبحث عن التاريخ" يسكنه الإحساس بالغربة الوجودية، أينما حلَّ وارتحل، وتذكار مرابع الطفولة في وطنه الأصلي، والأدعية والكنائس رغم فقرها وتقشف اهلها. التكنيك السردي اللغوي التصويري: تضافرت في النص ثلاثة عوامل لإخراج عملٍ إبداعي شيق ملفت.. العامل الأول: هو لعبة الفلاش باك، المتبعة عادة في السينما، والمسرحيات ،هذه اللعبة _ كما أسلفتُ سابقا _ جعلت النص أكثر تشويقاً وأبعدتِ المتلقي عن الملل أو الرتابة في القص. كما كشفت عن مقدرة الكاتبة في نسج حبكة محكمة، مترابطة رغم تباعد الأزمنة بعودة دائرية إلى البداية. العامل الثاني: هو حسن توظيف اللغة لخدمة النص، فقد كانت لغة البطل، (سهل ممتنع) فقد عبَّر عن أفكاره وقلقه بشكل سهل واضح، ولا يخفى في النص ، مقدرة الكاتبة في استعمال المجازات وتصوير مشاعر الحنين للوطن المفقود ولل "تاريخ المنهوب" كأنها بذلك تعبر عن مشاعر كل إنسان يفقد وطنه ووجوده وتاريخه. ولا ننسى تكنيك التنقيط، وما له من أهمية في الإيحاءات والتأويلات ، التي تُترك للمتلقي أن يشارك في تخيُّلها وإملائها . العامل الثالث: هو الفكرة أو الموضوع الذي طرقته الكاتبة، الذي بات هاجساً لكل الشعوب التي تهجَّر وتباد وتصادَر أوطانها ويمحى تاريخها.
- بؤرة النص: هي البحث عن الكينونة، عن الهوية الوطنية، و عن التاريخ الذي "لا يولد مرتين"
الحكاية، حكاية عائلة، وكثير غيرها من العائلات التي أقصيت بالقوة عن ديارها،من قبل "خفافيش الظلام" الذين يطلبون من الناس " رفع العلم الأسود وتقبيله" ومن يرفض من الرجال الإذعان لطلبهم "مخلصاً للعهد" يعدمونه، ويقيدون النساء ويسوقونهم للاعتلاء والحلب. هذه البداية، تحرك في أذهاننا تداعيات كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر، كيفية تأسيس أميركا على أشلاء الهنود الحمر/ السكان الأصليين الذين أبادهم الأروبيون بحجة أنهم وحوش أومصاصو دماء، وأنه يحق للمنتصرين،محو تاريخ المهزومين، وسرقة وجودهم من ضمير الأرض... والتاريخ بماضيه وحاضره مليء بحكايات إبادات الشعوب ، ومصادرة حقوقهم في "تقرير مصائرهم"،بطرقٍ همجية عمياء . في الختام أتمنى أن أكون قد قدمت قراءة
وافية لائقة بهذا النص البديع متمنية لكاتبته الأستاذة خيرة الساكت التوفيق والنجاح في مسيرتها الأدبية
الواعدة .
قصة قصيرة بقلم خيرة الساكت من تونس
~ مصير ~
أمي تهزني بقوة :
- أفق عزيزي هيا !
بالكاد أفتح عيني بعد سهرة البارحة مع خالي و عائلته في بيتنا ..
قرأ أبي آيات من العهد القديم .ردد خالي وراءه مغمض العينين.
يضغط على الصليب المعلق في سلسلة برقبته متأثرا ..
تحاول زوجة خالي التركيز و التظاهر بالتأثر مثلهما لكنها سرعان ما تهمس لأمي ببعض الأخبار عن الجيران و تبدأ بالنميمة
و الاغتياب بصوت خفيض بينما تكتفي أمي بالاستماع و الصمت حتى لا تغضب أبي.
الكل يشغلهم وضع البلاد و الفوضى التي بثها الأوغاد ..
التهينا أنا و ابنا خالي باللعب في الفناء ..نتحدى بعضنا أينا يمكنه قذف الكرة حتى تلامس النجوم ..
أرمي بها و أقف تحتها .أراها قبلت النجوم
و عادت بسرعة إلى حضني.
غير بعيد ..تحت شجرة الليمون استلقت ابنة خالي مع أختي تتبادلان الضحكات
و الأحاديث حول شبان الحي .
أقذفها بالكرة فتصيب فخذها .
تصرخ من شدة الألم . ترفع ثوبها و تتفقد مكان الحرقة ..
أشاهد جسمها ضاحكا ..فخذ سمينة بها بقعة حمراء تسيل اللعاب ..
أهتف : بطيخ أحمر ههه!
تشتمني مستنكرة تصرفي :
- ولد لئيم !
عادت أمي لتحريكي مرة أخرى و لكن أكثر شدة من المرة الأولى..
لم أتمكن من فتح عيني ..
حملتني بين ذراعيها .رمى أبي بغطاء فوقي ..
انطلق الاثنان بسرعة . قلب أمي يخفق بشدة أيقظني ..
أبعدت طرف الغطاء قليلا . ظلام دامس مخيف. لولا وجودي في حضن أمي لصرخت بأعلى صوتي.
سمعتها تهمس لأبي :
-إلى أين نتجه ؟
- لا اعرف ! المهم ان نبتعد عن خفافيش الظلام.
ما رأيك بالدير الكردي ؟ سيستقبلنا الأب حاييم ..
- أسرعي هيا!
قال أبي ذلك و يده تحاول تعديل ما يحمله من أشياء في كيس على ظهره.
جسده مستقيم قوي كاجساد الرجال الذين يأسرهم الخفافيش . يطلبون منهم رفع العلم الأسود و تقبيله.. يرفض الرجال ذلك مخلصين للعهد ..يعدمونهم..
تقيد النساء. تساق كالشياه للاعتلاء و الحلب .
يجهزون على الفتيات. يلتهمون كل البطيخ الأحمر.
نهجر. نهرب. نتشرد. يحرق الرب دون أن يحرك البشر ساكنا.
تدمر كنائسنا.. يسطو غراب أسود على تاريخنا ..
أطوف في كنيسة الانسان . كنيسة فخمة ضخمة مزينة بكل اللوحات و الرسوم .صلبانها من ذهب . مباخرها فضة . أدعيتها تلج كل القلوب .الأب فيها رجل وسيم يرتدي بدلة عصرية .يتحد مع الروح. كنيسة للأبيض و الأسود للرب و الإله لكل الأطياف و الألوان..
أشرح لابني محتويات اللوحات ، فوائد الدعاء و مناسبات تلاوته..
كثيرة هي اللوحات .
رقيقة هي الأدعية و متعددة هي المناسبات التي تتلى فيها ..
طويلة كطريق القارب الذي أقلنا تتقاذفه أمواج البحر . يذرو الهواء أحزان قلوبنا التي بدل أن تتناثر تزداد تشبثا بمكانها ..تمسكا بالوطن بالتاريخ..
أتامل كل زوايا الكنيسة. أتشمم كل الروائح المنبعثة..
أشياء كثيرة و لكنني لا أجد عبق التاريخ . أبحث عن التاريخ.
أريد أن أقدمه لابني أن أعرفه عليه .
أعجز عن إيجاده. كل الموجودات حديثة حتى الوطن حديث..
إذا فقدنا وطننا نعمر وطنا آخر جديدا و إذا فقدنا تاريخنا نعيش بدونه.. إنه فقدان أزلي .
لا أحد يمكنه ان يصنع تاريخا جديدا لنفسه.
التاريخ لا يولد مرتين....
أنثى شقراء هادئة الجمال و المشاعر تجلس علي كرسي خشبي في حديقة الجامعة و تقلب أوراق كتاب تاريخ بكل فخر ..
- " تاريخ حرب و دم و مكائد... !"
انزعجت لمقولتي و زمت شفتيها ممتعضة:
- بعد كل الذي تحصلت عليه من امتيازات في هذا البلد تقول مثل هكذا كلام..! إنه نكران للجميل.
- لست ناكرا للجميل و لكني أريد تاريخا بدل الذي سرقوه مني و هذا مستحيل لأن فاقد الشيء لا يعطيه !
- نحن بلد حضارة و ديمقراطية و يحظى الانسان فيها بحقوقه ..إنه في أعلى قائمة الأولويات..
- حضارة تكنولوجية حديثة قامت على جماجم السكان الأصليين و سرقة ثروات الآخرين..
تصمت زوجتي هازة رأسها في حركة أشبه بموافقة يائسة لكلامي.
تعود إلى التدقيق في الكتاب بينما أعد أنا كم جمجمة يجلس فوقها أمير خفافيش الظلام حتى يحكم كل هذا السواد و الظلام الدامس الذي يطبق على السماء و الأرض.
كم سلاحا تلقاه.. ؟ كم قنبلة فجرها..؟
كم امرأة وطئها.. ؟
كم كنيسة هدمها.. ؟ كم مسجدا دنسه..؟
كم حبا أحرقه ..؟ كم روحا علقها في فضاء عبثه..؟ كم شعبا جرده من تاريخه و رمى به إلى العدم.. ؟
نعود إلى السكن بعد يوم علم يصعد بنا إلى الفضاء الخارجي نعانق المريخ و نطوف بقمريه في رحلة حج علمية..
يجلس ابني إلى ألعاب الفيديو.
تتناثر ألعابه الأخرى حوله .
تأملتها بنظرة فاحصة . لا أرى الكرة .
أقصى أمنياتي الكرة و النجوم و حضن أمي .
تسرع أمي الخطى وراء أبي .
الطريق وعرة و التلة مرتفعة.
أصوات إطلاق نار تلج أذني ضعيفة كمواء قطط آخر الليل التي تنتظر الانقضاض على القمامة .
ثم بكاء و أنين يتسرب عبر الهواء الذي يلفح وجهي أبي و أمي ..
صعدا التلة . عبرا تعرجات الطريق.
وصلا أخيرا. توقفا . أبعدت اللحاف حتى أتبين شكل الدير الذي سيأوينا.
لا شيء سوى ركام منهار.. صخور متناثرة
و برد نشترك فيه أنا و أمي ينخر عظامنا كرصاص الخفافيش.
تكلمت أمي بيأس :
- لقد تبول ابنك....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق