ليلى عبدالواحد المرّاني
يوم ونصف في غابة مرعبة، تسمّى الغابة السوداء، من يدخلها لا يخرج منها... وإن خرج ففي أحسن الأحوال بساقين أكلتهما ( الكنكرينا).
ثلاثين كنّا، وولداً صغيراً في الخامسة، ترك أخاه وأمَّه هناك في أرض النخيل، وجاء مع والد يسعى للمّ شمل العائلة بواسطته..
نهاراً، والضوء لا يزال يغسل ثلوجاً تغطّي أرض الغابة، شهر شباط البارد كان، وعواصفه الثلجيّة تركت آثارها على قمم أشجار عملاقة تنتصب متراصّة كثيفة، وثلاثون وطفل يركضون بلا وعي خلف صفير مهرّبَين، يميناً وشمالاً... شرقاً وغرباً، صلة الوصل بينهم وبين المهربين أحد أعمام الطفل محمد، يعرف لغتهم، واتفاق مبرم بينه وبينهم على نغمة صفيرٍ معيّن, وتوصيّات وشروط نلتزم بها كي نتفادى الأخطار والمفاجآت؛ أن نبتلع حتى همساتنا. في ركضنا المسعور، يطلقان صوت طائر معيّن نتتبّع مصدر الصوت؛ فنسرع بكلِّ ما تبقّى لنا من طاقة، تبدو كالزحف...
وصل بنا الإنهاك حدّ انقطاع الأنفاس… يوم ونصف ولقمة خبز، وجرعة ماء باتت حلماً، وما زلنا نتمسّك بأملٍ يعطينا شيئاً من قوّة، سوف نصل الطرف الآخر من الغابة، خمسة عشر كيلومتراً، خطوة أخيرة وتتلقّفنا أرض الأحلام!
العرق يتصبّب أنهاراً ونحن نركض بعشوائيّة، كأنّ ذئاباً جائعة تطاردنا... أحفن من الثلج الملوّث بفضلات حيوانات مجهولة، أضع بعضه في فمي الجاف، وتحت بلوزتي أضع ما تبقّى...
نتوقف للحظات، وقد تقطّعت أنفاسنا، نرتجف برداً... تصطكّ أسناني فأتخلّص من الثلج الملتصق بصدري... الظلام يتسلّل بسرعة مذهلة؛ فتزداد الوحشة وحشة، ويزداد الصمت كثافة، وخوفنا يزداد عمقاً ورهبة ونحن نمسك بأيدي بعضنا، حتى تكاد أظفارنا تنغرز في اللحم، خشية أن نفقد أحدنا، أو يسقط آخر في إحدى الحفر... نركض ونلهث... نتصبّب عرقاً، ثم نرتجف برداً وخوفاً، ومحمد الصغير تتناقله أيادي عمَّيه وعمّته حين يعيى الأب عن حمله. عجبت لولدٍ بهذا العمر الصغير يكاد يقطع أنفاسه خشية أن تسمعه أوراق الأشجار العملاقة، مرتعباً يشير بإصبعه إليها؛ فيهمس والده بخوف:" للغابة آذان صاغية، وشياطين متخفّية تنقل الأصوات إلى الناحية الثانية "؛ فيلتصق برقبة أبيه، باكياً بصمت...
ويهمس آخر: " وللصمت الثقيل المطبق هدير تحمله أجنحة الشياطين إلى خفر الحدود.. "
أوامر صدرت لنا أن نبيت الليلة في الغابة، ومبكّرا في الصباح نقطع الجزء الأخير منها، في انتظار سيّارات صغيرة تنقلنا إلى المرحلة الأخيرة من رحلة الموت. سرعان ما افترش المهرّبان أوراق أشجارٍ ضخمة تشبه أوراق شجر الموز، وناما مسافة منّا، قال أحدنا: " لا تناموا... الثلج سيجمّد أطرافنا إن نمنا على الجليد... داوموا على تحريك أرجلكم. "
قال آخر: " ليُصلِّ كلّ منّا صلاته… "
وصلّى المسلمون وقوفا، والمسيحيّة الضخمة صلّت جالسة في صمت، صلّيتُ وهمست بخشوع: " يا ربّ ساعدني حتى أدخل الحدود، وإن متّ لا يهمّ... سيحصل أولادي على الإقامة …"
هكذا صوّرت لي سذاجتي! أحدهم همس باكياً: " اشتقت لأكل أمّي... كباب، وشاي على الفحم… "
شابّا كان، لا في يزال في العشرين…
أنياب البرد أخذت تنغرس في أجسادنا شبه العارية، بعد أن تخلّصنا من معظم ملابسنا ونحن نركض… ارتجف محمد بشدّة، خلع بعضهم ما يستطيع وغطّاه، وإذا بحزم من ضوءٍ مخيفة قادمة من طرف آخر لا نعرفه، أضاءت دياجير الغابة القاتمة وجعلتها صباحاً.... تتحرّك كألسنة شياطين هوجاء في جميع الاتجاهات، تختفي وتعود ثانية، نرتجف هلعاً، نتوسّد الثلج حين تمدّ حزم الجحيم ألسنتها؛ فتحيل ليل الغابة المخيف نهاراً ساطعا... الصمت والترقّب، والجوع والعطش هدّنا جميعا..
وللمرّة الأولى نسمع صوت الصغير محمد مكتوماً، باكياً.. " بابا أنا جائع " وهو يشمّ رائحة قطعة خبزٍ أخرجتها المرأة الضخمة من تحت قميصها... أعطته قطعة صغيرة، صبّتها لعنةً على أبٍ لم يفكّر أن يشتري شيئاً لابنه..
بكى الوالد صباحاً وهو يحتضن ابنه، وكنا نستعدّ لمواصلة رحلة الموت.. " واصلوا أنتم واتركوني مع ابني، لم أعد قادراً، لا أستطيع السير، فكيف أركض " قال بألم... امتدت أيدٍ مسرعة ورفعت الطفل، وأخرى سحبت الأب، واثنان ساعداني لأكمل مشواراً لم أعد قادرة عليه.
في الطرف الثاني من الغابة كانت تنتظرنا عربة لنقل الخيول، صغيرة لا تسع غير حصان واحد، مربوطة إلى سيّارة بيضاء، تكدّست الأجساد المنهكة فوق بعضها… الكلّ أصبح كتلةً واحدة وتقطّعت الأنفاس، صحت، وأنا أحسّ أن ساقي انخلعت، " أين ساقي؟ فقدتها... قُطعت.. "
وآخر صوتٍ سمعته،
" يبدو أن المرأة ماتت.. "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق