قراءة في نص الشاعر "علي الوائلي"
(شيء من الذاكرة)
بقلم/ حسين عجيل الساعدي
(على الإنسان أن يستعير لسان الطفولة كي يجرؤ على قول الحق) الروائي الليبي "إبراهيم الكوني"
(شيء من الذاكرة)
طفولتي البريئة
تخترق غيمة الصمت
تستعيد ذاكرتي
تنفث دخان سيجارتي
بملامح وجهي المتعب
تقص لي حكاية
اعتدت سماعها بلا ملل
الطين يفترش نفسه
عند باب مدرستي
وجه معلمي الباسم
يقتحم بؤس ملامحي
والدموع تتهاوى
على قدمي المتسخ
السؤال بين عينيه
لما الحزن يا ولدي ؟
وانت تخالط طين سومر
من هنا ،،،
ابتدأ العشق
عند اول شهقة نفس
تحمل عطر انكيدو المعتق
ويدي تهرب مني
تطالس الارض
الوله يأخذ سبابتي
لترسم اول قيثارة
تعزف لحن الخلود
انتهى العزف
على وقع اقدامها
سومرية ،،،
تشبه خبز امي
القت تحيتها
وجوريةً وقبلة
ثم ،،،
ثم ماذا ؟
رحلت حيث لا ادري
القراءة//
أجمل من يتحدث عن الطفولة هم الشعراء، التي شكلت جانب مهم في أعمالهم، فكانت مسألة توظيفها ركناً بارزاً في الشعر العربي الحديث، حتى أصبحت (ذاكرة الطفولة) ظاهرة تركت أثرها في نتاج شعراء الحداثة الشعرية. لإنها امتدادهم الروحي، المرتبط في وعيهم.
توسد الشاعر "علي الوائلي" ذاكرته ليستل منها بعض الذي مضى من طفولته، الذي لا يزال يعيشها بكل معانيها، وينهل من عوالمها، أفكاره، فتمثل له قيمة وجودية، لإن الشاعر يستغرق في عالمه الشعوري، بسبب هيمنت الذاكرة على جزء كبير مما شاهده في طفولته من أحداث بقيت عالقة في عقله الباطن أو اللا وعي. فصورة الطفولة تنمو داخل الشاعر مع النص الشعري. فهي ينبوع غزير لا ينضب.
سنركز الاهتمام على النص الذي منح الشاعر "علي الوائلي" قوة من أجل أن يعيد توازن ذاته، لإنه يعيدنا إلى طفولة الشاعر، وما يحمل من أوزارها.
في النص يعود الشاعر بذاكرته لمكامن الطفولة الاولى، والحنين إليها، وهو حنين إلى الحرية المطلقة والصدق والبراءة. ويبدو أن الرجوع إلى الطفولة حالة من اغتراب روحي وجسدي، وملاذ نفسي أمن ، يلجأ إليه الشاعر، لأستعاد صور طفولته، لإن الطفولة على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور" (تسمح لي أن أذهب صعودا من دون أي قطيعة مع الحاضر المعاش، إلى الأحداث الأبعد في طفولتي)، ولإنها تأمن استمرارية ذلك الطفل في دواخلنا، الذي يجد نفسه وحيداً لائذاً في عمق لا وعي طفولته.
إن النص الشعري المعاصر لا يمكن قراءته بمعزل عن العنوان، الذي يعد خطاباً موازياً للنص، وعليه ينبني النص، ويحيل المتلقي إلى مضمونه الشعري، لأنه يختزل النص بأكمله.
ولأجل الوصول إلى تحليل فضاء النص، وأدواته وجمالية تشكيله، فثمة أكثر من قراءة لتحليل العنوان، من خلال إعادة قراءة النص. فالعنوان جاء ليجتزء (شيء من الذاكرة) والوقوف عند محطات هذا الشيء.
كتب الشاعر "الوائلي" النص بوعي تخيلي ينسجم مع رغبته في استدعاء عالمه الطفولي، ليسقط عليه انفعالاته، وينساق وراء شغفه بهذا العالم. حين يجد نفسه وحيداً لائذاً في عمق لا وعي طفولته. فهو يشتغل على استحضار واستنطاق ذاكرته. فالنص يقع تحت ضغط العامل النفسي للشاعر، الذي يهرب الى طفولته ويستنطقها عن طريق استرجاع مواقف اختزنت في ذاكرته.
تميز النص بالتكثيف الشعري والدلالي والتنوع الأسلوبي الذي يمزج الشعر بالسرد ويكسر الحدود بينهما، ويقارب بين لغة الشعر وخطابها الشعري.
الشاعر "الوائلي" اشتغل على حلم طفولة من أجل تعويض الواقع، لإن النص لايخلو من انفتاح الذاكرة واستنطاق الحلم، لإن ثمة ذاكرة تملي على الشاعر، كونها تسرد ما حدث.
جاء بناء النص عبارة عن نصوص متجاورة، يقوم على (أربعة) مقاطع تفصل بينها بياضات، ذات مغزى، تتضح من خلال رابط يميز البناء الدلالي لكل مقطع، الذي تتمحور حوله بؤرة مركزية ذات معاني دلالية متنوعة من مقطع لآخر، فلا يمكن الفصل بين هذه المقاطع في فهم المعنى. فعبر هذه الرؤية يعيد الشاعر ترتيب محطاته التي شكلت مراحل طفولته.
اعتمد الشاعر على صور شعرية قائمة على الانزياح الدلالي الذي يستند على الاستعارة والتشبيه. وقدرته في نسج لغة تحاكي الدال والمدلول تبرر أعتماد النص على تقنية المونولوج الداخلي أو حوار الذات مع نفسها.
يبتدئ المقطع الأول، بفذلكة تقود الى طفولة الشاعر وهو يستعيد ذاكرة، تقص له حكاية اعتاد سماعها بلا ملل.
(طفولتي البريئة
تخترق غيمة الصمت
تستعيد ذاكرتي
تنفث دخان سيجارتي
بملامح وجهي المتعب
تقص لي حكاية
اعتدت سماعها بلا ملل)
الشاعر يبحث في أرشيف الطفولة، لأنه عالم ثري من الداخل، بمثابة كون شعري لذات شاعرة تسافر في عوالم الطفولة، يستعيد صور من الذاكرة، التي كانت بوابة لاسترجاع حكاية استلها من خزين طفولته.
(الطين يفترش نفسه
عند باب مدرستي
وجه معلمي الباسم
يقتحم بؤس ملامحي
والدموع تتهاوى
على قدمي المتسخ
السؤال بين عينيه
لما الحزن يا ولدي ؟
وانت تخالط طين سومر)
يتجاوز الشاعر ذاكرته الى عمق تاريخي (سومر وأسطورة انكيدو والقيثارة) يتمنى لو يحدث ذلك، كمتنفس روحي، ولجوء الى أعماق الذاكرة، هروباً من ألم الواقع.
(من هنا ،،،
ابتدأ العشق
عند اول شهقة نفس
تحمل عطر انكيدو المعتق
ويدي تهرب مني
تطالس الارض
الوله يأخذ سبابتي
لترسم اول قيثارة
تعزف لحن الخلود)
يتشكل فضاء الذاكرة على أبعاد زمنية: الماضي والحاضر، والمستقبل.
فقد استعار الشاعر عملية التداعي الحر في استكتشاف أفكاره وذكرياته ومشاعره الحقيقية، وكل ما يجول في ذاكرته في المقطع الأخير.
(انتهى العزف
على وقع اقدامها
سومرية ،،،
تشبه خبز امي
القت تحيتها
وجوريةً وقبلة
ثم ،،،
ثم ماذا ؟
رحلت حيث لا ادري).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق