المؤسسة الجمالية
المُفسَّرة للعرض المسرحي
سعدي عبد الكريم/كاتب وناقد
إن من أولى مهام المخرج المسرحي , هي إخضاع (النصّ المسرحي) المُدوّن باعتباره نوعاً من أنواع الخطاب الأدبي والذي يكتب بأدوات ومهارات قصدية مهنية بذات الأجواء التخصّصية , وبلغة حوارية تتسامى وفق تصاعد مقومات الصراع داخل (الثيمة) ( Theme ) أن يخضع هذا الخطاب الأدبي لجملة من الدعامات التفسيرية المنطقية والاستاتيكية , والسيميائية , والبنائية , ليغني بها مفاتن العرض المسرحي ويرتقي به صوب تأصيل أسلوبه الإخراجي ، في تحليل المتخيل الصوري وأغنائه بأعلى درجة من درجات الوعي الفني - التقني ، لأسلوبه الخاص وبراهين مدرستة الإخراجية التنظيرية التي ابتكرها ، أو التي ينتمي اليها.
فالنصّ المسرحي يختلف بطبيعة الحال اختلافا كبيراً عن باقي المدونات الأدبية وجملة من الفنون والآداب الخطابية والسردية الأخرى , ويحاول المخرج مجتهدا في تفسير النص من خلال رؤيتة الفنية الجمالية الإدراكية الاستنباطية الخصبة الفاعلة ، فهو المتسيد والمُفعل الأساس للـ(الصورة المرئية) ( visible picture ) والمفسر الحقيقي الفني للرؤية الخفية المستترة , والمناطق الغامضة واللا مرئية داخل ( ذهن الكاتب ) محاولا تثوير الملكات الفيزيقية الجسدية للممثل , لخلق ذلك التطابق المرئي للعرض , عبر الصورة والجسد وتنسيق الحركة وفق فن ( الميزانسين ) ( Mecan sean ) باعتباره لغة وظيفة الإخراج المسرحي , ووفق منهجية هذا الفن في امتلاك ناصية التفسير الاستنباطي والتعبير عن مجمـــل الأحـداث عبــر ( الصورة المتحركـة ) ( Movable Pictuture ) التكوينية للممثلين , والشكل العام التاثيثي المرئي للـ( العرض المسرحي ) وبالرغم من ان مفردة ( مخرج ) لم تظهر بشكل جليّ وواضح إلا في القرن التاسع عشر وتحديـدا في عـــام ( 1874 م ) مع ظهور الألماني ( ساكس مننجن ) ( Sax Mienengin ) الذي أعتبر أول مخرج في تاريخ المسرح العالمي , وأسمـه بالاصل ( جورج الثاني ) وهو دوق مقاطعـة ( ساكس مننجن ) فقد ثار هذا المخرج على منهجية المسرح القديم واشكاله السطحية واصر على الالتزام بالأصالة التاريخية وبالأخص في مجال السينوغرافيا وتصميم المناظر والازياء باعتبارة فنانا تشكيليا , كما والغى الزخرفة الباروكية , وعضد المعايشة مع الاحداث الواقعية والتحليل التاريخي في عرض اعماله الدرامية , بعد ان كان ( المؤلف ) هو الذي يمارس الطقوس الاخراجية بشكل ارشادات وتوجيهات وتفسيرات يساعد فيها الممثلين على تجسيد الشخصيات , وقد تطورت التقنيات الاخراجية عبر المدارس التنظيرية المتعددة التي ظهرت على السطح المسرحي , باختلاف الطرق والاساليب الجمالية والسينوغرافية للعملية الابداعية لفـن ( الاخراج المسرحي ) ابتدءا ً من ( مننجن ) (Mienengin ) والفرنسي ( اندريه انطوان ) ( Andre Antoine ) والروســـي (ستانســـــلافسكـي) ( Stanslavski ) و ( مايرخولـــــد ) (Mayir colad ) و ( غروتــــوفسكــــي ) ( Grotowski ) و ( براندللـو ) ( Pirandillo ) و (بيسكاتــــور) (Pescator) و( بريخت ) (Brecht) و( انطوان ارتــو) ( Artaud) و(كوردن كريك) (Graig) و(ادولف ابيا) (Appia) ومرورا بـ(جان فيلار) (Jean Vilar) و(بيتر شومان) (Schumann) وانتهاءً بـ(بيتر بروك) (Peter Brook) الذي اسس معملا فخما للتجريب في فرنسا , واستوعب , بل واستفاد من جميع التجارب المعملية التنظيرية للمخرجين السابقين وتمخضت نظرته لـ( فن الإخراج ) المسرحي في تكوين الممثل واعداده وتقديم ابهى حالات الفرجة السينوغرافية المتكاملة .
ومن خلال هذا العرض المسمياتي الموجز عبر جُل الاسماء الكبيرة التي عملت في مجال الاخراج المسرحي وفق مناهجه الحديثة , نلاحظ بعد الرجوع الى محاولة استقرائية للتعددية الاسلوبية الاخراجية التي زخرت بها هذه المراحل التاريخية الحديثة في فن الإخراج المسرحي , نجد بان الوضوح في الرؤية المحسوبة الدقيقة لـ( المخرج ) ذات أهمية وفاعلية عبر أكتمال العناصر العرضية المهمة , وفي تنشيط المنشأ الحركي للاجساد الذي يعد من أهم ادواته الفاعلة والمؤثرة في تحقيق الاثارة والرعب والرأفة والجمود والعطف والقهر والتغيير, و ما الى غير ذلك من التثويرات والمتغيرات , باعتبار ان عناصر الحركة العضوية الجسدية الفيزيقية تحدد البعد النفسي والبعد الجسماني والبعد الصوتي والفسلجي والاخلاقي للشخصية الرئيسية والشخصيات الاخرى المساندة , وعلى اعتبار ان ( المخرج ) هو المسؤول والمتسيد الاول على رمة العملية الاخراجية المسرحية , ابتداءا من القراءات الاولى , ووصولا الى المرحلة النهائية ( العرض ) .
للحصول من خلال تلك الرحلة المتعبة الشاقة على رفعة التلقي , وجني ثمار حالة الاستجابة (Response) المثلى من لدن جمهور ( المشاهديــــــن ) ( Spectators) .
ويعتمد عمل المخرج المسرحي على تنشيط ( العوامل التكنيكينة ) وقياس المسافات المساحية التناظريــة وتحليــــل ( Analysis ) الانفعالات الموضوعية , وتفعيل المدارك الاستنباطيـة , وايصال وسائل الاستنتاج وتفجير ملكاته الرئيوية وادواته المطواعة الذهنية وتسييد عناصره المتعلقة بالقيمة التأمليـة والمخيلـة الفاعلة التفسيرية والتأويلة للنص المسرحي , ومن ثم التأسيس لفرضية العرض , وفق خمسة عوامل مهمة في التلقائية الفرزية المعملية داخل طقسية ( العرض المسرحي ) وهي برأينا :-
1. تنشيط المناخات المناطقية الاشتغالية الحرة .
2. التوافق والتنافر , في المنجز الاعجازي المرئي التجريبي .
3. تفسير اللغة عبر فيزيقية الجسد , ومحاكاة الا مرئي بينهما .
4. التعبير عن المتخيل الذهني المرئي للمشهد ضمن اطار الشحنة السيميائية .
5. تدعيم حالة ترابط المشاهد بذات القيمة التسيدية الفنية الايقاعية الجمالية للعرض .
وحين يمكن اتصال هذه العوامل بمناطق الوعي التام , او اللاوعي الجزئي , في استقراء محصلة الجدوى العرضية الخصبة المتواخاة , ومن ثم الرجوع ابتدءا الى الوحدات الضرورية المؤثرة في عملية تفسير النص المدون , لاحالته الى صورة مرئية ذات ملامح وحدود فهمية متخلية قاطعة , او اعجازية في ذات لحظة التداول الآنية للتركيبة الذهنية المتقاطعة مع الصورة , او المتفقة معها ضمنا , وفق أطار عملية التلقي اللحظوي الآني , ففي الحالتين يكون (المخرج) قد أثار المعجز الفهمي الآني للـ ( المتلقي ) لتناول , او تدوال , او فهم , او فك رموز الصورة المرئية في لحظة عرض المشهد المرئي , وسيتأتى هذا بطبيعة المزعوم الفكري والفني عبر المحافظة على المناخ التجاذبي والتأثير السمعبصري والحركي والإحاطة المثلى بالمنظر والإنارة والكتلة واللون والشكل وإنشاء لغة مشتركة متبادلة بين ( العرض - الجمهور ) من بداية المشهد الاستهلالي الى إظلام الباحة ليكون بذلك قد تسيد على عنصرين مهمين في ملخص الجهد التفسيري الرؤيوي ، وهمـا في رأينا :-
* ( العرض - الاستجابة ) *
يعتبر العرض المادة الفنية الجمالية المرئية المتكاملة التي تقدم بأساليب متنوعة وفق منظومة الحراك الفكري والمذاهبي الفني للمخرج باعتباره المتسيد على رمة هذه المنظومة ، وبعد استقراء للجهد الفني لـ ( المخرج ) على مستوى المنجز المرئي التفسيري للنص , يأتي دور الجهد العلمي لـ ( السينوغرافي ) في تفسير النص المسرحي عبر استثمار المتخيل العلمي المرئي في بلورة تكييف النمطية السردية للحوار بأفعال موازية مرئية صورية تفسيرية مكثفة يتعين عليها بموجب امتلاكها لذلك المناخ الشكلي التغييري للصورة الثابتة ( Fixed Picture ) لاحالتها الى صورة متفردة حية ً مرئية جمالية نابضة باعتبـار ان ( السينو غرافيا ) علما من العلوم المستقلة بذاتها وفق المفاهيم التخصصية الحديثة والتي تستقي علومها وتقنياتها الفنية العالية من منابع شتى من مجمل العلوم الهندسية والمعمارية والإنشائية الهندسية ، وبالإجمال هي مجموعة علوم وتقنيات تصب في صالح الإبهار للصورة المرئية ( Visible Picture) وبإمكانها إضافة صور مضافة أخرى داخل هيئة الصورة الواحدة للمتخيل المرئي في ان واحد , كالعرض السيميائي اللغوي والجسدي , وعرض معادل سينمائي بصري لينعش ذاكرة العرض وفق شكلنة تقنياته الحديثة , رغم ان ذات المشهد لا ينتمي الى زمكانية وبيئة واحدة .
اذن فقد استطـاع علـم ( السينو غرافيا ) ان يداخل الأزمنة والأمكنة في بعضها ضمن شرائط المتصور العلمي والتلاقح بين الدلالتين الفوقيتين ( الأنـا الحاضرة ) و ( الفكرة المنقرضة ) والزام الصورتين بأحقية البقاء في ذات النشاط الآني لمنطوق ( اللحظة ) و الـ( هنا ) في العرض الجمالي المرئي .
وتهتم ( السينو غرافيا ) أو ( السينولوجيا ) باعتبارها علما يهتم بتنظيم باحة وفضاء المسرح تقنيا وتؤثثهما تأثيثا جماليا ، وباعتبارها فنا تنسيقيا مستقلا للمتغير الصوري الدرامي لفضاء العرض المسرحي , وهي المهارة التقنية المنسجمة مع الملامح الفنية والتشكيلية لرؤية المخرج المسرحي التصميمية التفسيرية , باعتباره المتسيد على عموم مناطق التعبير النهائـي عن ( الفكرة ) الأصلية للنص المسرحي , والسينوغرافيا تساهم في ملأ الحيز الفراغي الذي يضمن تشكيل الكتل والأحجام والمسافات والحركات وتعنى بالمرئي الصوري للأحداث ضمن سلطة الزمكانيات والفضاءات .
ومن هنا تأتي أهمية وفاعلية ( السينوغرافي ) في أنجاز المنتج المرئي للعرض المسرحي باعتباره المفسر الثاني للنص وفق شرائط امتلاكه اولا , للضمانات الفنية كالذوق الحسي الرفيع والتذوق الموسيقي العالي والبصيرة اللونية التشكيلية المرهفة , والمامه بالديكور , والأزياء , والإضاءة , وتناظر الكتل , وفن توزيع المسافات , والثقافة المعرفية القرائية الخزينة ، التي تخلق لدية وعي نوعي تراكمي لمهارته الفنية السينوغرافية .
وثانيا بصفته العلمية المهنية التجاربية , التي توجب عليه المعرفة الدقيقية في جملـــــة من الحقـول العلميـة المتعلقــة بـذات الاختصـاص مثــل ( الهندســة المعماريــة ) ( Architectural Engineering ) و (الهندسة الانشائية ) (StructuraI Engineering ) و( الصورة المرئية ) ( Visible Picture ) و ( الصـورة الثابتــــة ) ( Fixed Picture ) و ( الصــورة المتحركـــة) ( Movable Picture ) و( الادراك الحسـي ) ( Perception ) والاحاطة بـ ( الحجـوم والمسافـات ) ( Volumes and Distances ) و ( المنـاخ التاريخــــي ) (Historical Climate ) و ( العوامل التقنيـة ) ( Technical Factors ) وعلــم ( الرياضيـــات ) ( Mathematics ) و ( هندسة المسافات ) ( Engineering Distances ) وجملة من العلوم التي لا مجال لحصرها , ويبقى الجهد السينوغرافي مناخا شافعا لبلورة العرض المسرحي وتغذية عناصره المتعددة للوصول به لحالة الاستجابة المثلى من قبل المتلقي ( الجمهور ) .
وتقوم ( السينوغرافيا ) في توظيف جملة من العوامل الناجعة لتفسير العرض المسرحي أهمها برأينـا :-
1. تؤكد على مفهوم السببيه الخفية وراء الفعل من خلال المرئي الصوري .
2. تقرر الاستنتاج النهائي لـ( الأحداث ) عبر الشكل الجمالي العام للمشهد .
3. تؤشر على ربط المشاهد ببعضها وفق مناطيقية الافعال والاحداث والزمكانيات والشخصيات .
4. توظيف المعايير السيميائية على شكل ايقوانات دلائلية قائمة على التمايز الحثي الفعلي للاشارة والعلامة , و ( الكود ) , واللغة الطبيعية .
5. حصر المسافات على المستوى السمعبصري , والحركي , والفضائي , وألا مرئي .
6. تؤسس لاختراق الجدار الرابع .
7. تؤلف بين الابعاد الثلاثة ( العرض - الطول - العمق )على مستوى المنجز المرئي .
8. تحفيز الملكات التثويرية لدى الشخصيات عبر التخاطب المرئي مع التناظر الكتلوي.
9. استنهاض عمليات التجريب المحض المختبري للمتخيل الصوري .
10- ترميم النظام البصري التأثيثي الجمالي للعرض المسرحي .
إن المتخيل الصوري عبر التقنيات العلمية للـ ( السينوغرافيا ) الحديثة, بامكانه اخضاع الطبيعة السيميائية في اللغة وتحويل مدلولاتها واشاراتها وعلاماتها وشحناتها الى نماذج صورية ذات دلالات حية مقرؤة عبر المرئي , مـع اتفاقهـا العناصـري الوثيـق بالفعـل المؤسس ( الممثل - الفضاء ) والاشتغال على محاور الاتصال بين هذه العناصر للتعبيـر , والاحاطة الفعلية بالعرض عبر اللون والشكل والانارة والديكور والصورة السمعية والصورة البصرية والصورة الجسدية والصورة الا مرئية وهي بالتالي تجمع بين هذه المسميات على مستوى الانتاج الفكري التنظيري وتصهر الوظائف في وظيفة مكثفة واحدة هو المنتج الصوري المرئي فاذا ما عزلناها عن مناطق الاشتغال المرئي الجمالي , سنكون قد جزئنا الفعل الحركي لوظيفة الجسد واللغة والحث السيمائي والنظريات المعمارية الهندسية , واخللنا بمهمة التلاقي بين الفـــن ( الإخراج ) كمنتـــــــــج إبداعي مفسر للعــرض المسرحــــي , وبين العـلــــم ( السينوغرافيا ) باعتبارها تقنيات مهارية عالية , وعلوم تكنولوجية مختبرية حديثة , تثري العرض وترتقي به الى منطقة الاستجابة المثلى , لتكون مفسرا ثان ٍ في طرفيّ المعادلة الجمالية المؤسسة للعرض المسرحي عبر المتخيل الصوري المرئي .
لقد أحتلت عملية تأثيث الفضاء المسرحي مكانة طليعية متقدمة وملزمة عبر الفترات المتعاقبة لنمو وتطور العرض المسرحي ، ابتدءا ً من العروض المسرحية الإغريقية والرومانية ومرورا بالعروض المسرحية للعصور الكلاسيكية القديمة والحديثة , وأنتهاءا ً بالعروض المسرحية الحديثة , ووفق تراتيب مناهجها التنظيرية الاخراجية المتعددة .
فلقد كان يُعتنى قديما بالفضاء المسرحي على أساس مفهوم المنظور الصوري المرئي الواقعي بكل تفاصيله الصغيرة ( الاكسسوارية ) القصدية المُنشأه من ذات الواقع المعاش في مجمل تواتر زمكانية النص والعرض المسرحي في آن واحد , مما دفع صناع العروض المسرحية على الاتكاء على فرضية ( التزيين والزخرفة ) والإحاطة المثلى بالبهرجة التأثيثة للعرض , للحصول على ارفع درجة من درجات التلقي والاستجابة من لدُن ( الجمهور ) ومن ثم لتعيش شخصيات العرض ( الابطال ) بذات الفرضية السابقة التي تحتم عليها الإيجاد والإخلاص في إظهار مزاياهم التمثيلية التشخيصية الراقية , للخروج بعرض مسرحي مرضي , والذي هو بالتالي يدلل على نجاح ذلك التلاقي المرجو بين الفضـاء المسرحـي (الصورة المرئية) ( Visible Picture ) السينوغرافية و (الصورة المتحركة) ( Picture Movable ) الانفعالية للممثل , والاجواء التثوريـة المفتوحـة للـ ( الثيمة ) والعناصر التكميلة الجوهرية الاخرى للعرض لتوخي الاتصال المباشر ما بين نبض الشخصيات السلوكي وبين المتلقي ( الجمهور ) لتحقيق ذلك التخاطب العقلي والوجداني لعمليات التواصل ما بين الصورة المرئيـة للـ( العرض ) واللحظة الذهنية المتقدة الانية المتفجرة عبــر ( الرعب و الرأفـــــة ) مـع ( الأحداث ) لخلـق حالـة التطهيـر ( catharsis ) الأرسطي .
وفيما بعد وتحديدا في عصر النهضـة فقد أستعين بفن ( الديكور والعمارة ) عوضا عن الفنون التقليديـة ( التزيين والزخرفة ) واصبح هناك مختصون في عملية إحالة الصورة الجامدة المدونة عبر المنتج الابداعي ( النص ) الى صورة جمالية مرئيـة مشهديـة عبـر ( الديكور ) الى العرض المسرحي .
أما في العصر الحديث ومن خلال ظهور العديد من النظريـــات المجددة فـي ( فـن كتابـة ) ( النص المسرحي ) اولا وظهور الكثير من المزايا والخصوبات التقنية والتكنيكية والفنية في نظريات ( الاخراج المسرحي ) وفق شرطية نشوء العديد من المدارس المسرحية الجديدة ثانيا , فقد عنيّ أيمـا اعتناء في عملية تأثيث الخشبة المسرحية وتحويلها الى عروض مسرحية صورية مرئية جمالية تعبر عن تقنيات عالية الدقة والمهارة الفنية في ايصال الفكرة المستنبطــة من ( النص المسرحي ) , وتحويلها الى صورة مرئية مبهرة تحاكي الفكرة النضية بذات القدر من الرفعة والسمو الجمالي , ولكل مخرج طريقته وأسلوبه الإبداعي الخاص ووفق طرائق مناهجه الإخراجية التنظرية الجمالية الحديثة المجددة .
ويبدو إن ثمة تباينا واضحا بالامكان الإشارة اليه هنا , ما بين ظهور دور المخرج المسرحي عبر أزمنة تطور النشأ المسرحي , وما بين ظهور ( السينو غرافي ) باعتباره هو الاخر مفسرا ثان للفكرة الأصلية للنص المسرحي , فاذا ما قبلنا بفرضية التلاقح الفكري الصوري التفسيري العميق بين القدرتين المفسرتين للنص ( المخرج - السينوغرافي ) فسوف لن نلجأ بالضرورة الى الرضوخ لحالة تنافر الرؤى بل يقودنا الى اخصاب المنتج الصوري المرئي , ولكن , في حالة قيام المخرج ذاته بمهمة ( السينوغرافي ) فسيكون هناك حتما حيزا كبيرا من التجافي والتنافر المرئي الذي يؤدي الى نتائج تقاطعية غير مرضية على مستوى الابهار والفرجة والاستجابة للعرض المسرحي , ولو ان هناك ما يشير الى العديد من التجارب العرضية الناجحة التي تمكن فيها المخرج باعتباره ممتلكا لتلك التقنية التجاربية ( السينوغرافية ) ولكننا بأي حال من الاحوال لا يمكننا المزج بين المهمتين على الاطلاق , باعتبار ان الرؤية الجماليـة للمتخيل الصوري ( الفني - العلمي ) قد تتفاوت يقينـا ما بين التقنيـة المهنيـة الفنيـة العاليـة التـي يمتلكهـا ويخبرهــا ( السينوغرافي ) في تفسير الفكرة النصية واحالتها الى صورة تأثيثة جمالية مرئية لملأ الفضاء المسرحي بكل مقايسس استدعاء الحس اللوني المرهف , والتناظر الكتلوي والجسدي , والحركي , والاضائي والاكسسواري , والطرازي , والموسيقي , وما بين ما يمتلكه المخرج من رؤى تفسيرية للفكرة الاصيلة للنص , ففصل عناصر الاشتغالية في حدود المناطق المتفق عليها سلفا في اتحاد الرؤى لتخصيبها سيكون بتقديرنا هو الفاعل والمتفاعل والمؤثر في تخصيب الفكرة الاصلية للنص المسرحي وتحوليها الى صورة جمالية مرئية , تؤدي بالتالي الى اعلى وارقى درجات الابهار والتلقي و(الاستجابة) (Response) .
وفي المتداول المعروف لدى المعنيين والمهتميـن بـ( فـن المسرح ) في تعييـن مفهـوم ( السينوغرافيا ) باعتبارها فنـاً من الفنون الحديثة , وعلماً من العلوم التي ظهرت حديثا والتي تـُعنى بتأثيث فضاء المشهد الصوري ، او شكل المشهد المرئي , وهي مكونـــة مـــن كلمتيتيـن اساسيتيـن همـا ( SCENE ) وتعنـي ( الصـورة ) او صـورة المشهـد و( GRAPHIE ) وتعني ( التصوير ) فهو بالتالي فنا وعلما يهتم بالهندسة المعمارية للفضاء المسرحي , ويحيل هذا الفن التقني الراقي (السينوغرافيا ) العديد من المهمام والتقنيات والركائز التي تستخدم في العرض المسرحي لرحاب رحم هذا الفن كالديكور , والازياء , والاكسسوارات , والاضاءة والكتلة , واللون , والحركة , وتوزيع مناطقية الفرجة المرئية ضمن المشهد الواحد في مجمل العرض المسرحي , و( السينوغرافيا ) فن وعلم تقني شمولي مركب متكامل العناصر ومتعدد القابليات في تأسيس الصورة المسرحية المرئية المبهرة التي تحقق اعلى درجات الاستجابة, وهي بالتالي تحيل المكنونات المسرحية الجامدة الى ذوات ارواح فاعلة ومؤثرة في مجمل الاحداث والافعال لتنمي فيها شرطية المساهمة في تحليل الثيمة الاصلية للـ ( النص المسرحي ) لاحالتها الى ادوات فاعلة مستثمرة خير استثمار في ملأ الفراغ المشهدي كـ( الاثاث ) الذي لا يتحوي على معرفة خلاقة سابقة في مسار الأحداث إلا حينمــــــا تحيلـه ( السينوغرافيا ) الى اداة فاعلة تحاكي الفعل وتتناغم مع الايقاع الداخلي للعرض وتوازي القيمة التصاعدية في المتقلب الفيزيقي للجسد لتحولها من اداة جامدة غير جملية الى كتلة فاعلة وحس جمالي مرئي عبر المتخيل الصوري , وتحوله بذات النية الى متداخل لوني خلاب فاعل ومتفاعل مع الحدث , وكعارض سينمائي في احايين اخرى عبر الشاشة الخلفية ( السايك ) كمفسر ثان للمشهد ومسعفا ضروريا لتأويل زمكانية الحدث والرجوع اليه كنمط من انماط تغذية وإذكاء صيرورة المتخبل الصوري .
وفيما يتعلق بعنونة ( السينو غرافيا ) باعتبارها علما من العلوم المستقلة بذاتها وفق المفاهيم التخصصية الرصينة الفاعلة في عملية الخلق والابداع والابتكار والتي تكتسب خبرتها التقنية الفنية الرفيعة من خلال الدراسة الاكاديمية وضمان تنشيط ذاكرتها الحية عبر الالمام بعلم ( الهندسة الانشائية ) (Structural Engineering) و ( الهندسة المعمارية ) (Architcctural Engineering) , والدراية الفاعلة التوقيعية المدروسـة في علــم ( الرياضيات ) (Mathematics) و ( المقاسات الهندسية ) ( Engineering measurement ) مضافا اليها الخبرة المتأتيه عبر التراكم الكمي الخبراتي الميداني النوعي لمنظمومة عمل الجهد ( الفيزيقي ) للجسد , داخل منطقة الكتل اللونية ومساقط الضوء , وخلق مساحات توافقية محسوبة بدقة متناهية , بين جميع هذه العناصر للخروج بجمالية سينوغرافية مشهدية علمية مبهرة اخاذه تُوقعُ عين وحواس المتلقي ( الجمهور ) أسيرة ( الصورة المرئية ) وبالتالي فهي منصهرة في عملية التفسير , في ذات ( اللحظة ) والـ( هنا ) الآنية الاجمالية لمتعة ( الفرجة ) داخل كنف المشهد المسرحي .
وأما ما يتعلق بتعريف ( السنوغرافيا ) على اعتبارها ( فنـا ) اصيلا مستقلا بانفراديته المشتغلة داخل منطقة الفرجة والقبول الاستجاباتي للعرض , و( فنـا ) يُعنى بتأثيث فضاء المشهد المسرحي الممتزج بالتذوق الموسيقي العالي وثوابت المحافظة على الايقاع الداخلي والخارجي للصورة المرئية , وهي ملزمة ايضا بالاحاطة والدراية الكاملة بالحس اللونـــــي المرهف , اي علـــى ( السينوغرافي ) ان يكون متخصصا في رسم اللوحة التشكلية داخل فضاء المشهد المسرحي , ليؤثث بالتالي الى امكانية الاستثمار الحقيقي لكامل مواطن ادواته الفاعلة , واستخدام المتخيل المرئي الذهني المرسوم , واخضاعه لعملية التفسير المشهدي للـ ( الثيمة ) النصية المكتوبـــة , وتقع على عاتـــق ( السينوغرافي ) مهمة في رأي غاية في الاهمية وهي ان يمتلك بالكلية ملكاته التقنية , ومدارك معارفة الاكاديمية وادواته الحرفية بذات الاختصاص , وصهرها داخل مداركه ومعارفه الذاتية القرائية الاخرى للشعر والمسرحية والقصة القصيرة والرواية وجملة التصانيف الادبية الاخرى , وربما بُفيد من مشاهداته للعروض التجاربية في حقل اختصاصه , او جملة المشاهدات المرئية الامعة الاخرى , للافادة منها واخضاعها لرؤاه الجديدة المتحفزة , وعليه ايضا ان يرتقي بفهمه للمناهـج ( السيميائية ) الحديثـة باعتبارها مناهـج تركيب للدراسات ( الانتربولوجيـة ) ( اللسانيــة / النفسيـة / الاجتماعيــة ) وعلـم مـن العلـوم الانسانيـة وتطبيقـات ( سوسيو- تاريخية ) وانظمة دالة وهي بالتالي دراسة لكل مظاهر الثقافــة كانظمـة للـ( العلامة ) اعتمادا على افتراض ان مظاهر الثقافة والفن كانظمة علامات وصفية وتحليلة واستقرائية سيميائية ، ذات خواص تـُعنى بالدال والمدلول , ومن هنا ياتي التأكيد على شرطية المام ( السينو غرافي ) على معرفة متقدمة على خصائص مجمل العلوم التنظيرية المتداخلة في جوهر فنـه , والتي هـي بالتالـي على مساس تـام في شغليتـه ( الفنية - العلمية ) , ووفق هذا الفهـم سيقدم لنـــا المُحترف ( السينوغرافي ) عملية ابداعية خلاقة جمالية وفق تقديراته الجريئة للجرعة العلاماتية والاشارية والدلائلية واللونية والجسدية والحركية والاثاثية والاضائية المركبة المرئية المؤثثة لفضاء المشهد , وهي بالعموم الادوات الفنية الفاعلــة والمحركــة والمؤثرة والداعمة , لعملية تفسير اللغة الاصلية للمشهد المسرحي .
ومن المهم ان نعرف بان فن ( السينو غرافيا ) يحيل جملة من الظواهر الذهنية النصية الظاهرة والمستترة المدونة داخل عباءة مخيلـة الكاتب المسرحـــي ( StagePlaywrght ) الى متخيل صوري مرئي حقيقي يبعث على( تثوير ) مجمل الملكات والظواهر الجمعية او الفردية المعلنة والخفية للشخصيات , والامكنة والازمنة , والدلائل الرمزية المستوحاة من الركائز الواقعية المعتمة داخل النص , عبر تقنياتـة وادواتـه ( السينوغرافية ) الراقية على اعتبار ان الفنان ( السينوغرافي ) مخرجا ثان في انشاء الصورة المشهدية للعرض ويعني ذلك ان باستطاعته كمحترف باحالة الوقفة التأثيثية الدرامية الجامدة عبر ادواته الى مؤثث صوري مرئي منجز متحرك تتداخل فيه المرئيات مع بعضها في آن واحد , حيث بامكانـه عبـر ذلك الحس ( الفنـي- العلمـي ) المرهف الذي تسكنــه تلك الملكــة ( المجنونة - العاقلة ) المتفردة وتلك الشحنة المحلقة في الا مرئي , من اجل استنباط الاحكام الصورية المرئية المدروسة , كنظام استثمار للمعادل الصوري السينمائي المُمنتج , او اشكال جسدية لونية كتلوية متحركة , او عرض صور فوتوغرافية كبيرة دالة على الفعل , او استخدام لوحات مرسومة تعبر عن مجمل الرؤى النصية المتداخلة , او استثمار الروح الفلكلورية والظواهر المثنلولوجية , او باستخدام اصوات وازياء والوان وديكور وهياكل رمزية مستوحاة من ازمنة غابرة , او استحداث ما هو غير مألوف للعين والحس , من الوان وصور وكتل وما الى ذلك لاحداث تلك المصادفة القصدية الصورية المرئية غير المتوقعة , فيحصل بذات اللحظة الانية على الدهشة والفضول والصدمة , ليقودنا الى عملية التحفيز الذهني , ثم الاستقراء , وبعدها تحصل عملية التفسير الجمالي للمؤثث الصوري للمرئـي .
وبالعموم فكل تلك اللوازم ( السينوغرافية ) الشافعة ستكون بالتالي , منصة يرتقي فوقهـا ( السينوغرافي ) في اطار اتمام تلك المهمام الفاعلة , لاستخلاص نتائج مبهـــرة علــى مستوى الاستجابـة من قبـل المتلقـي ( الجمهور ) ومعينا خصبا في تقديم رؤيا جديدة في انعاش وتفسير ( ثيمة ) المشهد المسرحي , وكسر حاجر الرتابة والملل الذي قد يحيل العرض برمته الى مصدر ازعاج صوري , مشوش الرؤى , وصداع مسرحي مرئي مؤقت .
وربما أن الذي سينتشلنا من تلك الرتابة وحالة الملل , والحركة المستمرة القلقة فوق كرسي الفرجة , هو ذلك الفن الجمالي الاكاديمي الراقي ( السينوغرافيا ) والحس المرهف باللون , والمعرفة المثلى في التشكيل المهاري لتناظر الكتل عبـر الدرايـة التـي تنشأهـا ( الفنون التشكيلية ) ( Variety Arts ) وجملة من العلـوم التقنيـة الرفيعـة الاخرى كعلـم ( هندسة المسافـــات ) ( Engineering Distances ) ويبقى على قمة تلك العلوم والفنون النبيلة السامية علم ( الهندسة المعمارية ) (Architectural Engineering ) ذلك العلم الهندسي التقني الفني الراقي ليكون منهلا خصبا , ومعاضدا ومساهما من طراز رفيع , لتتمكن ( السينوغرافيا ) من ترجمة فعلية جماليـة للمؤثث الصـوري المرئي لفضـاء المشهد المسرحي .
ومن خلال هذا التواشج والتعاضد والتلاقح والتلاقي الفني ، الجمالي ، الرؤيوي الضمني الخلاق ، بين ( المخرج المسرحي ) باعتباره المتسيد على رمة العملية التفسيرية للنص المسرحي ، والمسؤول الانتهائي ، في تقديم الحجة الاستنباطية المقرونة بدلائل تفسيرية تنظيرية ، واقامة الدعائم الجمالية باتساع مفاتنها الارتقائية والنهوض بمسلمات ضوابطه المحكمة المنسقة ضمن التزامات مقيدة محكمة ( اسلوبية - طرازية - مدارسية ) صوب رفعة الاستجابة العرضية للعمل المسرحي ، والوقوف امام الموجة النقدية الصارمة بحججها المعرفية بجل تصانيفها النقدية التحليلة ، للدفاع عن عرضه المسرحي وتقديم المبررات والمقدمات الحججية العلمية المقنعة ، داخل صيرورة ضوابطه الابداعية الجمالية ، المؤسسة والمنتجة لعرضه المسرحي .
وفي الطرف الاخر يقف السينوغرافي بوصفه المشارك الفعلي الاخر في تفسير العرض المسرحي ، والاداة الابداعية المكتنزة لمجمل مواطن التثويرات الجمالية المرئية المشكلة لتحديث وتجديد روح المؤثث الصوري المرئي ، داخل العرض المسرحي ، وهو بالتالي الموجة التشكيلية الجريئة ، الصانعة للصورة المرئية المشهدية الفاعلة ، والمؤثرة في ضبط حركة ( المرسل - المستقبل ) عبر الادراك والاحساس باللون ، والكتله ، والشكل العام وما الى ذلك من اجتهادات في متابعة نسج صورة مبهرة للارتقاء بالعرض المسرحي الى مستوى التفسير ، ومن ثم الى حالة الاستجابة المثلى .
وعلى فرضية اعتبار ان المتخبل الحثي الجمالي بصفته رؤية ، وتصورات ، وبدائل مقترحة فريدة ، وعلما منهجيا ، ومن ثم على اعتباره آليات إجرائية واضحة متقدة ، لإدامة الخصوصية الفائقة في إحداث عملية التغيير عبر تثوير تلك التوابع المستترة داخل خفايا المراكز القبيحة في النوازع المتدنية الجمعية والذاتية ، ويكاد الجزم بات ملزما ، وضروريا وملحا ، في ضرورة تحقيق الاتحاد والاجتماع الأفضل والأمثل بين هذين العنصريـن والدعامتين المهمتين الأصيلتين ، ( المخرج - السنوغرافي ) باعتبارهما المؤسسة الجمالية المفسرة للعرض المسرحي .
سعدي عبد الكريم/ناقد مسرحي/العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق