في نص " رغبة مستعرة " للشاعر قصي الفضلي.
بقلم الأديبة الناقدة التونسية : د . خيرة مباركي
.
حلّق الشاعر العربي في آماد بعيدة، وأنشأ لذاته أكوانا خاصّة، يرتادها في لحظة حلم عتيّة حين يثقل الكون في داخله، يكون الطلق ويولد النص، ومن عيونه يتشكّل العالم. لعلّها رؤية رومانسية حكمت الخيال الشعري، ولكنّها مسافة نظر تتوجّه بتؤدة نحو السرياليّة أو لعلّها تقفز في ارتيادها المطلق لعوالم الروح، في حالة من الكشف لأشد المناطق سرية في تجاويف الذات وأغوارها العميقة.
قد تتشكّل في هذا الإطار رؤية الشاعر الشّعريّة من رؤيا الواقع وتصوّر الوجود، وغالبا ما يكون الجسد ذلك "البرولوج" الذي يصعد إلى عالم المطلق، وتكون معه الأنثى فاتحة لعوالم الدنيا المحجّبة. هي فلسفة شعريّة تؤمن بسحريّة الخيال وقدرته على اختراق حجب النفس والنفاذ إلى جوهرها. إنّها مسافة نظر تراودنا ونحن نقرأ هذا النصّ لقصي الفضلي "رغبة مستعرة" الذي سنتناوله ضمن مقاربة فلسفيّة وجودية، هي قراءتنا وتصوّرنا وفق رؤية تأويليّة قد تكون متوارية في الخطاب.
قد يضعنا الشاعر أمام مشهديّة أيروتيكيّة بهذا الحضور الصّارخ للجسد. وهو ما ندركه أولا في عتبة النص وهو العنوان. الذي عبّر عن البعد الحسّي وما يحدثه من انفعال ناتج عن تأجج رغبة الجسد، يوسوس من ورائها صوت إباحيّ عمريّ، لكنّها رغبة الكتابة بين الحلم والرؤيا، لارتياد عالم جديد ينهض من ركام الذاكرة وفوضى الأشياء، وقد وجدنا صدى للعنوان في المتن وضعه في سياقه من الكلام :
وعقارب الوقت المتجمّد
تراقص عود ثقابي تدل
رغبة مستعرة
وبالعودة إلى لسان العرب (المجلّد6، ص182) فإنّ كلمة "رغبة " وهي المنعوت في هذا المركب الاسمي، تدل على شهوة الجسد فـ"القول: ظهرت الرّغبة أي كثُر السّؤال وقلّت العفّة، الحرص على الجمع مع منع الحقّ". أمّا النعت "مستعرة" فهو صفة مشبهة من فعل استعر بمعنى استوقد وهي صفة للسعير، ويقال رجل استعر جوفه أي به سُعار وسُعار العطش: التهابه. من هنا ينبجس المعنى، هو اشتعال الرّوح في الجسد ذلك الذي كان منطقة الممنوع والاحراجات التاريخيّة وبؤرة المحرّمات. فيتحوّل هذا الجسد إلى فضاء شعريّ ومسرح يتهيّأ للحركة في المتن، وهي حركة داخليّة ترتبط برغبة تتفجّر فيها لغة الحواس، فيستعير لها صورة السّعير، ليجعل من الجسد شحنة تنفجر داخل اللّحظة الشّعريّة. وتعقب هذه اللحظة حركة أخرى خارجيّة – أو هكذا يقنعنا المتلفّظ - فتبدأ فيها رحلته ويتقدّم إلى الحافة يروي تلاشيه في المكان برغبة للجسد. قد يكون هذا "البرولوج" معبّرا عن مشهديّة في الخطاب يشكّلها تشكيلا تدريجيّا حركيّا، ينطلق من شعور وجداني يتحسس عبره ظلامه الأنيس، لكن كل حركة هي حزمة من العلامات المنذورة في فضاء من الإيماءات تكتمل عبر آليات وبُنى لغويّة وجماليّة:
أسير مبتسما
قادم إليكِ
بنكهة الحلم
على صدري أجمل حقائب الوله
لأمنحَكِ لون النّغمِ المشتعلِ بفوضى
سرابي
لأفيق أنوثتكِ بكلّ ما أُوتيتُ من عشقٍ
يبدو عالم الشاعر فضاء شعوريّا يقتاده إلى حيث أحلامه المهجّرة، لكنّه يسير خلفها، يراودها، ممّا يجعله يُشيّىء وجوده من وجود فيزيقي تدل عليه الحركة الماديّة (أسير... قادم إليكِ) والحركة النفسيّة (مبتسما) ثمّ العاطفيّة (الوله، العشق). إلى وجود مجازي استعاريّ يضعنا أمام كيان تمثّلي، هو الحركي الإيمائي ليكون الشّعر في هذه اللحظة أحد التعبيرات الجماليّة وهو يرصد هذه الحركة للوجود. وبين حركة اللغة وحركة العاشق يكون الامتلاء والوعي بالكينونة. بذلك فالجسد مقاومة لفراغ أنطولوجي. والشاعر بهذا يحاكي الوجود باللغة وكأنه يؤدي رقصة وثنية بجسد يطفح بالعلامات والفكر المتجسّد بواسطة حضور شبه واقعي، يتموضع في مكان خاص بين الحلم والواقع أو لعلّها أحلام اليقظة، هي لحظة هروب مضمّخة بالاغتراب:
أنتعل غيبوبة الأمنيات
المضطجعة على قيد الانتظار
(...)
صادحا موال جسدك
فضاء يغرقه بألحان الموسيقى ومواويل الجسد، والموسيقى صوت العالم الأبدي في عُرف الرومنطيقي . هو الانتظار، صورة أوجاع الاستفاقة على التاريخ العاصف، يرنو إلى واقع جديد من خلال لحظة اشتعال للجسد، وليس الحسّ وديالكتيك الرّغبة في الحقيقة سوى رمزا للفعل والخصوبة، يعتصم فيها الشّاعر بوعيه العميق، فيتحرّر من مشاعر الاستسلام والانسحاق، لتكون المواويل الصّادحة صوتا للفعل والإرادة. فيتجاوز الجسد صنميّته وجموده نحو المطلق في "ثورة بيضاء" يرسم ملامحها بين "ارتعاشة الخجل" و"جنون القبلات"، يطلبها رغبة ورهبة حين يتحول في الخطاب عبر حركة ديناميكيّة من الهدوء إلى الانفعال، ومن أسلوب خبري تقريري إلى أسلوب انشائي منحه صورة جديدة كشفت عن حالة انفعاليّة متغيّرة بين تمنّ والتماس، كلّه إلى المنشود متوجّه، يطلب تحققه في المستقبل فتغدو اللحظة الشعريّة لحظة نامية وكأنّها المناجاة والرّغبة في ارتياد عوالم جديدة:
ماذا لو غرقتِ بضبابي
فعُريكِ المُشتهى
يهب جسدي دفء الأفكار
يحيلنا إلى زمن محترق،
بين أصابع الشّوق
لا يستُره وهم الضّوء
صورة أخرى للفردوس المفقود، جسد عارٍ من كل المواثيق والثوابت، إنّه فضاء مطلق يستعر فيه الشوق والتوق في لحظة إشراق عاتية وميتافيزيقا صوفيّة تعيد اكتشاف الواقع عبر الرّؤيا والحلم ويكون الجسد ذلك البرولوج أو البوابة التي يلج من خلالها إلى المطلق، وقربانا تتمرّد به الذات الشاعرة عن كل النواميس، هو جسد يطلب الخلاص في زمن محترق يواجهه بسعير الرغبة في التجاوز فيؤلّه اللذة لحظة الألم ومنه تنبثق رؤية ديونيزيّة وهي فكرة تعود بنا إلى فلسفة نيتشة في تصوره للفن الذي يعبر عن نزعة جسدية مفعمة بالنشوة. قد لا يكون الشّاعر أرادها ولكنّها تطفو فوق المعنى، تفضح ضعف لحظة جمود يواريها بأوار الجسد الذي يغدو أداة معرفيّة ينفتح بها عن الوجود كما شكلته روحه الشاعرة، بعيدا عن أسن الواقع وترهّلاته، يلوّح من خلالها إلى حب أكبر من النفس يستوعب كل جمال الوجود. وكأنه يلوذ بالطبيعة الأولى قبل أن يشوهها العقل.
قد نكون أحطنا ببعض المعاني والرؤى التي تراءت لنا من خلال هذا النص. ولكن الأهم بالنسبة إلينا هو أن العمل الفني صورة متدفقة للمعنى، قد تكون ذات معطى جاهز لكن قراءاتها مشاريع تتحقق. لا يمكن أن نقف عند حدود الظاهر من المعنى بل نقرأ ما بأنفسنا لنلبي نداء خفيّا يتجاوز صاحب النص إلى النص وتلك لعبتنا في التأويل، باعتباره فنّا أكبر من القول، يمكن أن يدعم شعريّة التخييل جنب النص المبدَع.
* النص :
“ رغبة مستعرة “
.
أسيرُ مبتسماً
قادم إليكِ
بنكهة الحلم
على صدري أحمل حقائب الوله
لأمنحك لونَ النغم المشتعلِ بفوضى سرابي
لأفيق أنوثتك
بكل ما أوتيت من عشق
أنتعلُ غيوبة الأمنيات
المضطجعة على قيد الانتظار
وعقارب الوقت المتجمد
تراقص عود ثقابي
رغبة مستعرة
ثورة بيضاء
مرتعش خجلاً
صادحا موال جسدك
ماذا لو غرقت بضبابي .
فعريك المشتهى
يهب جسدي
دفء الأفكار
يحيلنا إلى زمن محترق ،
بين أصابع الشوق
لا يستره وهم الضوء ،
ندعو قبلات الجنون
للالتصاق
خلف عناقِنا
الموشوم بأحمر شفتيك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق