شكسبير الادب السومري
بقلم/ حسين عجيل الساعدي
أنخيدوانا (2350 ـ 2294ق. م) أميرة أكدية أبنة الملك سرجون الأكدي مؤسس الإمبراطورية الأكدية ، عمة الملك الأكدي "نرام سين" ، أمها الملكة "تاشلولتوم" سومرية من جنوب العراق ، وربما كانت كاهنة هي الأخرى . هي الكاهنة الأعلى للإله نانا إلهه القمر عند السومريين في مدينة أور ، وأول من حمل اللقب"كاهنة-آن"، وهو منصب ذو أهمية سياسية كبرى تشغله بنات من العائلة المالكة ، وهو تقليد بدأ بـ"أنخيدوانا" .
أذن هي أكدية المولد وسومرية الثقافة لأنها عاشت معظم حياتها في بلاد سومر ودفنت في المقبرة الملكية ، في المعبد الذي يطلق عليه إسم "گيبارو" .
قام الملك سرجون بتعيين إنخيدوانا في منصب الكاهنة الأعلى على أهم معبد في أور السومرية ، في حركة سببت ضجة كبيرة وذلك لتأمين قوته في الجنوب السومري حيث توجد مدينة أور . وذلك كخطة سياسية لتساعده على توطيد الإمبراطورية . فقد كان بحاجة الى كاهنة عليا من نسل ملكي ممزوج بين ألهة سومر مع الآلهة الأكدية .
تحدد الدكتورة "جوان ويستنهولز" تاريخ حياة أنخيدوانا بين (2300 – 2225 ق.م.) في حين أن مكتشفها في مقابر أور الملكية ، عالم الآثار السير "ليونارد وولي" ، يضح ولادتها ووفاتها بين (2285 – 2225) .
أنخيدوانا أسم أنثوي أكدي ، مركب من "أن – خيدو – أنا" ، عـُرّب بصور مختلفة ، فظهر رسمه على هيئة "أنخدوانا، أنخيدوانا، إنخيدوانا، إيهودينا"، ومن معانيه "سيدة أو زينة السماء (القمر)". يتألف الإسم من خمس مقاطع سومرية: إن، خي، دو، أن، نا . وتعني "إن" الكاهنة العظمى ، أما "خيدو" فتعني "زينة"، بينما "أنـا" هي نسبة إلى السماء أو إله السماء (القمر). وهناك ترجمات أخرى لاسمها:"الكاهنة العليا مفخرة السماء /الجنة" .
يقول الدكتور دنحا طوبيا كوركيس:
"أن المقطع الأول من إسم شاعرتنا له دلالات أكبر بكثير من المعنى التقليدي المتعارف عليه آنذاك . وأهم ما يحمله من معنى هو أنه كان لقبا يكنى به ملوك أوروك القدماء لأن تنصيبهم ملوكا كان يقتضي اختيارهم بمباركة رجال الدين قبل كل شىء وإقامة أحتفالات رسمية بمناسبة الجلوس على العرش . وربما لأنه لقب ذكوري أيضا، إختارته أنخيدوانا بدلا عن لقب "زرو" الأنثوي الذي كان يمنح للكاهنات من قبلها" .
عدها العلماء الآثاريون أول شخصية نسائية أدبية كاتبة وشاعرة وناشطة نسوية في تاريخ البشرية ومعروفة ذات رأي وحكمة في الألف الثالث قبل الميلاد . سبقت في كتابتها ، ملحمة كلكامش بـ (800) سنة ، ولذلك يصفها الناقد الدكتور "وليم هالو" بـ "شكسبير الأدب السومري".
كانت الإغريقية "سافو" تعد أقدم من عرف من النساء الشواعر . إلا أن إنخيدوانّا ، تقدمت عليها بنحو سبعة عشر قرناً . فـ"سافو" عاشت خلال القرن السادس قبل الميلاد ، في حين عاشت أنخيدوانا في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد.
كان همّ الأميرة الأكدية التي كتبت قصائدها باللغة السومرية بث روح الألفة و التسامح فلم تهجُ أحداً رغم المآسي التي حلت بها ونفيها من أور فكتبت رائعتها (النفي من أور ) وهي تبكي شعراً "أنا انخيدوانا كنتُ المظفرة المبجلة .. لكنه ساقني من حرمي ..صيّرني هاربة كسنونوة من النافذة..حياتي في سعير ..جعلني أمشي بين العليق في الجبال ..عرّاني من الإكليل– الحق لكاهنة عليا .. ناولني خنجراً وسيفاً وقال:أديريهما صوب جسدك قد وجدا لك" .
يقول الدكتور دنحا طوبيا كوركيس : "رغم أن أنخيدوانا كانت تتمتع بثقافة عالية وأنضجت الشعر السومري الذي يعود عهده إلى مئات السنين ، إلا أنها لم تخط قصائدها بأناملها، وإنما عـُهد بها إلى الكتبة المختصين بالتدوين والنسخ . معظم تراتيلها منقوشة بالخط السومري ، ولكن أسلوب نظم الشعر في اللغتين السومرية والأكدية متشابه جداً، إذ يجمع المتخصصون في الأدب الرافديني القديم على غياب الجناس والقافية والبحور من القصائد والتراتيل الدينية وحضور مشهود للغة المجاز، خاصة الأستعارة" .
تعد تراتيلها أقدم أثر أدبي معروف في التاريخ الإنساني . هي مكتوبة على الرُقم المسمارية قبل 4300 سنة .
تُعتبر إنخيدوانا شخصية بطولية وعرفانية في آن واحد، وقد بدأت صورتها تستحوذ على المخيلة الأدبية المعاصر مع بروز نظريات النقد النسوي ، وإحياء صورة الأنثى في العصور الماضية .
فهي بإجماع الباحثين المختصين، شاعرة موهوبة وقديرة، كتبت شعرها بلغة سومرية عالية، ولهذا ذهب الظن ببعضهم إلى أنها من أم سومرية .
ألفت إنخيدوانا الكثير من الأشعار والترانيم للآلهة السومرية وخصوصا انانا بلغت 42 ترنيمة وجهت إلى المعابد الموجودة في بلاد سومر وأكد ومنها معبد إريدو وسيبار وإشنونة ،
وبقيت تراتيلها وصلواتها تنشد في المعابد لسنوات طويلة . وقد أعيد إنشاء النصوص من 37 لوح أثري ذكر أشعارها في مدينتي أور ونيبور ، معظم هذه الألواح الأثرية تعود إلى زمن سلالة أور الثالثة والفترات البابلية القديمة .
أطلق "ويليام وولفغانك هاللو" الباحث من جامعة يال وبروفيسور مختص في أدب الآشوريات والبابليات ، على انخيدوانا لقب"شكسبير الأدب السومري" بعد قراءة أعمالها . وقد ترجم أعمالها فريق متخصص من جامعة "بيركلي" بكاليفورنيا نثراً ثم قامت بصياغة الترجمة شعراً إلى الإنكليزية الباحثة في الآداب السومرية "بيتي دي شونغ ميدر" . كتب عنها الكثير وترجمت أشعارها إلى الإنكليزية والألمانية .
كذلك كتبت عنها "جانيت روبرتس" في مقالة أكدت فيها أن انخيدوانا تمثل:" شخصيةً قويةً ومبدعة ، إمرأة متعلمة أنجزت أدواراً متنوعة في مُجتمع معقد، بطموحات لا تختلف عن طموحات نساء اليوم" .
يعتبرها علماء الأدب والتاريخ أقدم امرأة كاتبة وشاعرة حب وجنس ، وقد تركت مجموعة من الأعمال الأدبية تتضمن أشعاراً مكرسة للإلهة إنانا ومجموعة من التراتيل المعروفة بـ "تراتيل المعبد السومري" وهي تعتبر أولى المحاولات في الإلهيات المنتظمة، وينسب إليها بعض الدارسين "كوليام هالو وفان ديك" أعمالاً معينة رغم أنها لم تذكر صراحة بالاسم . وهي الأولى التي خاطبت قرائها بضمير المخاطب وأعلنت عن إسمها وهويتها دون لبس في الوقت الذي نجهل بأن معظم الأدب السومري مجهول الهوية، ومنه ملحمة كلكامش . شعرها يجمع بين التراتيل والقصيدة الشعبية شكل ما مجموعه 45 عملاً إبداعياً . كذلك يعكس صورة المرأة ومشاعرها وشخصيتها الحقيقية في تلك الحقبة الزمنية . عثر على مئة لوح طيني تحمل كتابات لأنخيدوانا تعود إلى الحقبة البابلية القديمة .
تصف أحدى المصادر أعمالها بـ"تتنوع تراتيلها، فهي توظف كـ: تعويذة متعددة المستويات ، وجدال سياسي ، ونبذة شخصية ، ونص شعائري ، ونص لاهوتي ، ونصٍ تأريخي ، ونص له بُعد قضائي "أوراق إنهدوانا البحثية" ، وهي نسخ لعمل أجرته وأبقته في نيبور، أور وربما لكش . والتي تم حفظها جنباً إلى جنب مع مخطوطات ملكية ، وهذا يوضح فكرة أن كتابات انخيدوانا كانت ذات قيمة عالية جداً حتى لقرون بعد وفاتها ."
قام عالم السومريات "صموئيل نوح كريمر" بالتعاون مع الشاعرة "ديان وولكستين" على جمع أشعار إنخيدوانا في ملحمة شعرية موحدة، إنانا: ملكة السماء والأرض ، وقد كانت نسخة "وولكستين" مصدر إلهام لعدة أعمال شعرية أخرى كـ: ملكة السيوف للشاعرة "جودي غران" وبين الآلهات "لآنّ فينتش" . في عام 2003 صدر كتاب بالإنكليزية عنوانه "إيننا السيدة ذات القلب الأرحب، قصائد الكاهنة العظمى إنخيدوانا"، والكتاب من تأليف الباحثة الأميركية "بتي دو شونغ ميدور" ، وهي محللة نفسية يونغية، ذات نزعة جنسانية . وتضمن الكتاب ترجمة ثلاث قصائد طويلة من شعر إنخيدوانا ، هي قصائدها الثلاث الطوال عن إيننا ، مع تحليل واف لكل منها . وبرغم سلاسة ترجمة هذه القصائد .
بدأت صورتها تستحوذ على المخيلة الأدبية المعاصر مع بروز نظريات النقد النسوي ، وإحياء صورة الأنثى في العصور الماضية ، فيشير الباحثون في شعر إنخدوانا ، بأنه يمتاز بسعة الخيال ، وجمال التشبيهات ، وحرارة العاطفة ، وقوة التعبير عن حياتها الباطنية . فكان لشعرها تأثير كبير في التفكير الديني ، في حياتها وبعد وفاتها بقرون . فتراتيلها "تؤسّس للأنا الشعرية في عراكها الأزلي مع قوى الكون وأسراره، مثلما ينكشف وينفتح على الذات الفردية وجوّانيتها المعتمة " . وقد وصفتها كاهنة عظمى جاءت بعدها بأنها "امرأة بخواصر مؤهلة في طهرها ، جديرة بالكهانة".
أما قائمة مؤلفات إنخيدوانا فهي:
- نِن مي سار را ، "تمجيد إنانا"، مؤلفة من 153 سطر ، قام "هالو وفان ديك" بتحريرها وترجمتها عام 1968، ثم ترجمتها "أنيت زول" عام 1997 إلى الألمانية .
- إن نِن سا غور را ، "سميت نسبة لفاتحتها" ، مكونة من 274 سطر "غير مكتملة" ، قام "سوبيرغ" بتحريرها عام 1976 مستخدماً 29 جزء مكتشف .
- إن نِن مي هوس آ ، "إنانا وإبيح"، ترجمها "ليمِت" عام 1969.
- تراتيل المعبد ، قام "سوبيرغ وبيرغمان" بتحريرها عام 1969، مكونة من 42 ترتيلة متنوعة الأطوال ، موجهة للمعابد .
- ترتيلة لـ(نانا) ، قام "ويستنهولز" بتحريرها.
في عام 2015 قام الإتحاد الفلكي الدولي بتسمية فوهة على سطح عطارد باسم إنخيدوانا .
من قصائدها :
* رباعية مؤلفة من 153 بيتا :
مزهوة بنصري كنت ذات مرّة ،
ونـُفيت من معبدي على حين غرّة ،
كالخـُطـّاف مرغمة من نافذة تسلـّلت ُ، بعد عمر بين رائحة البخور أفنيت ُ.
* بعد وفاة والدها تمت تنحيت إنخيدوانا من منصبها ككاهنة عليا ، فكتبت قصائد تحمل ذاتيتها كشاعرة ، حين نُفيت من مدينتها وأقصيت من منصبها الكهنوتي .
سألتني أن أدخل المعبد المقدس
الـ (كَيبارو) - معبد زقورة أور العظمى- ودخلتُ ، أنا الكاهنة العليا
انخيدوانا ، حاملة قُـفّــة الطقـوس ، ورتّلـت أدعيتك .
منبوذة الآن بين المجذومين ، حتى ماعاد بمقدرتي أن أحيا معك ، ظلال تدنو من ضوء النهار ، النور أسّود حولي .
* "تراتيل المعبد السومرية"، وهي أول مجموعة من نوعها وفيها تقول إنخيدوانا: "يا مليكي، خُلق شيء لم يخلق أحد مثله من قبل" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق