قراءة في ما كتبه علي لفته سعيد..سردياً!!
شوقي كريم حسن
الأزمنة بعد عقدها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وخاصة تلك التي عاشها السارد أو كان قريباً منها، تشكل واحدة من أهم مصبّات الاشتغال الاسترجاعي الذي يروم النبش داخل المسكوت عنه والمخفي تعمّدًا، وهذا ما فعله السارد علي لفته سعيد في روايته (باب الدروازة) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية 2022، حيث يعمد السارد الى الرجوع مستذكرًا أيام زيارته لأول مرّة الى العاصمة التي تشكّل ليديه رعباً يؤثّر فيما بعد على أسرار وجوده داخل مجتمعٍ متنافرٍ يبدو في جوانيّة السرد خاليًا من الحياة، سوى بعض الإشارات التي بانت داخل الخان الذي اتّخذه السارد منفىً للكثير من أولئك الذين يبحثون عن خلاص داخل اضطرابٍ شديدٍ تظهر عليه معالم الوقاحة والشراسة أحيانًا، يتحرّك العالم السردي عبر كلّ مستوياته من خلال نقطة مركزية هي (خَلاوي) المعبأ بإشارات ظلّت ملازمةً له على مساحة السرد، خوف يبرّره السارد مرّات موقفًا إياه عند حافّة الكشف المحتال، ويطلق له العنان في مرّات كثيرة، تحاول الشخصية المركزية إيجاد الصلات بين عالم الخان الحذر شديد القسوة، وشوارع وأزقة الكاظمية ومحل بيع الثلج الذي كان المحطّة الأساس في قيادة الأحداث واتّساعها من خلال مكتشف عيني، قد لا يكون السارد فيه سوى متفحّص حذر شديد الريبة، ينقل ما يشعره مؤثّرًا ومفيدًا في مسارات السرد الممتدّة بخطوطها الفاعلة، داخل إيقاع ينتمي الى الشرح وتبياناته، أكثر مما ينتمي الى الوصف الخارجي.
ثمة أعماق تتحرّك منتجةً أفعال الرؤيا، ومن خلالها تتم عمليات الروي السردي المتصاعد باتجاه غاياته، ثمة أكثر من غاية، تظهر سريعًا، لكنها تختفي دون أن تترك اثرًا مهمًّا لدى متلقّيها الذي يلاحق الأحداث من خلال الشخصية الفاعلة التي تحوّلت الى كاميرا تلفازية، تنقل كلّ ما تريد نقله دون تدخّل حتى وان كان بسيطًا، وخارج الأفعال التأثيرية أو ما يمكن تسميته الثيم الدرامية الصغيرة التي تسهم في تشييد الأحداث وإيصالها الى مراميها الأساسية والختامية، حيث يبقى (خّلاوي) المحور الناقل الذي لا يسهم في صناعة السرد، بل يأخذه جاهزًا ليحوّله الى فاعلٍ تأثيري، تسيطر عليه بعض ملامح الخوف والارتباك، والابتعاد عمّا هو غير قابلٍ للإفادة من وجهة نظر السارد،
تكمن قدرات ( علي لفته سعيد) السردية في أأنه يقود السردية بهدوء ومتّخذًا من اللغة بساط معرفي شارح، دقيق الاكتشاف، مثلما
هو دقيق الاختيار، وهذه المكنة الاشتغالية ما جاءت عن فراغ، إنما هي الدربة الكتابية عبر مسيرةٍ طويلةٍ تنقّلت بين الرواية والقصة القصيرة والشعر، لهذا تنزع لغة السرد لديه الى ما نسميه الشعرية السردية، وهي محاولة متقنة تقدّم الموسقة الشعرية داخل الايقاعات السردية التي تقترب والمشهدية السينمائية، ذات التكثيف الصوري العالي والنامي داخل متلاحقاته الانتقالية، لغة السارد التدوينية لم تغادر الحياة، بل ظلت اسيرة خطاها، خفيفة ملتاعة في مرّاتٍ، وثقيلةً ساخرةً في أحايين كثيرة. والسؤال الذي اراه ملحاً، مالغاية من كتابة رواية سيرية كباب الدروازة، أاو هي قريبة من السيرة الافتراضية أو المتخيّلة؟! تتداخل الغايات، لدى الكثير من الكتاب، الذين امتهنوا الكتابة مثل (علي لفته سعيد)؟
تبدأ من خلال لحظة تعرية الذات وإذابة جليد أوهامها ومخاوفها، وهذه واحدة من أهم واعقد الضرورات الكتابية، وأشدّها تأثيرًا افي نفس المتلقّي الذي يريد معرفة الى أين تمضي به الأفكار وخاصّة القيمية منها، وذات القيمة الدلالية، التي تمنح الرواية القدرة على أمرين مهمين هما:
الإبهار الجمالي، وأسرار التقنية الكتابية،ا لتي تعمل على الإمساك الجاذب للمتلقي.
إن القصدية الكتابية واضحة داخل (باب الدروازة) إذ تحوّلت الذات من مرحلة حاضرها المرتبك الشديد الاعتام، الى مستورات الأزمنة وخفاياها التي اختارها الكاتب ووضعها بين يدي السارد العليم ، الكلي المعرفة، حتى في دواخل النفس وإطمارها، حيث يقدّم نماذج مؤهّلة لأن تبقى راسخةً في ذهنية متلقيها، وهذا ما يؤكده ارنست همنغواي ( مالم تترك الشخوص الروائية في ذهنية القارئ ما تريد ايصاله وقوله، فلا فائدة منها)
إن الرواية قيمة حكائية حتى وإن حاول السارد تقديم البناء على الأفكار وبواعثها وفعالية شخوصها، تبقى الرواية تدور داخل حلقة الكشف بتأنٍّ دقيق، وقيادة مبهرة تعرف الى أين يمكن أن تتّجه بالأزمنة والأمكنة أيضا، مادام الزمان قد تشكّل فلابد من إملاء فراغاته بأمكنةٍ معروفة لدى المتلقّي، لكنها غير مكتشفة، لهذا يقدّم السارد، توضيحاتٍ مكانيةً دقيقةً تبدأ من الخان ومخزن بيع الثلج، وتستمر باتجاه مرقد الكاظمين والفندق، والأزقة المرتبطة بعضها ببعض، ثمة خارطة دقيقة يقدمها الروائي على لسان سارده، الدقيق الملاحظة، تزداد حيرة السرد دقّةً حين تظهر فتحية عند حوض الماء وجرأتها غير المعهودة لدى (خّلاوي) الذي يكشف عن أشد المظاهر النفسية ارتباكًا، فيحاول الهروب باتجاه نفسه، وهذا ما فعله في مرّة قادمة، حيث انزوى وحيدًا خائفًا في مخزن الثلج، مراجعًا ذاته التي ظلّت لا تعرف ما تريد حتى نهاية الرواية، التي تحوّلت في سردها الى زوج خالته بائع الثلج، المصدوم سياسيًا، حيث يضع بين يدي(خّلاوي) مجموعة من الوصايا التي تنتهي عند(إياك والانتماء الى الأحزاب، حينها سيحل الخراب بك وبعمرك..) الوصية هذه لم تبق داخل ماضي السرد، بل هي إشارة واضحة للقادم من الأيام، وكأن علي لفتة سعيد، يهمس في إذن متلقّيه (على الجميع الاستعداد للمعركة)ثمة ما هو أقسى من ضيم الاستذكارات لا محالة منه، تلك المسافة غير المكتشفة بين مهمّتين ضرورّتين هما السارد العارف والمسرود عنه المختفي وراء الأفعال، المسرود عن يتأمل ويصنع دون اعتراض أو حتى محاولة تغيير، ثمة قبول مطلق، دونما حتى هامش رفض أو إجراء ما يمكن أن يحيل السرد الى مواضع كشفية ثانية، المتبنيات ثابتة، لهذا تأتي النتائج ثابتة، وودقيقة البحث .
إن باب الدروازة رواية عراقية المنبت والتاريخ. أعدّها واحدةً من أهم الروايات التي صدرت في الأعوام الأخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق