دلالة المدينة // في نص الشاعر // علاء الدين الحمداني // دراسة نقدية بقلم الأستاذ // حسين عجيل الساعدي

. . ليست هناك تعليقات:

دلالة المدينة
في نص الشاعر "علاء الدين الحمداني"
بقلم / حسين عجيل الساعدي
(من كل خراب، تنبثق الحياة من
جديد، وكل ما يموت يولد من
جديد).
الكاتبة السويسرية
"إيزابيل إيبرهارت"

النص//
في المدينة المتداعية كثيرة هي الوجوه البائسة، .. المارة يسيرون كالأموات، خطوهم مُثاقل وأفواههم مترهلة، يسفون النهار بظلام تَراكمَ بأرواحهم حد الأختناق، الإزقة موحلة، أسيجة متهاوية،
خانق الهواء المشحون بالقلق له رائحة الزوايا الرطبة،
بيتنا العتيق تتوسطه نخلة عجوز، ساقها معقوفا، ثمرها اليابس يفترش الأرض، مثل أفكارنا الساذجة، طرّحها يبابا..
في شق جدار تنور الطين يابس غصن النسرين، ... لم يعد ديكنا يجلجل بالصياح .. في ليلة قائضة راح وليمة لجرذان جائعة ..
في المدينة المهترئة أغذُ الخطى بأقدام مُتعبة فيصخب بمسامع إنفعالي صراخ مُجهد وخيالات معتوه، ... يالكثرتها التوابيت والأجداث المحنطة بالكوابيس،
أعدُ نفسي قرصانا أهوج أعتمر قبعة مثقوبة، أحمل سيفا مثلوما، وجيبي ممتلئا خبزا وحلوى منتهية الصلاحية، أبتسم ساخرا، تذكرت لا غِمد ولا جيب لي غير قبعة ورثتها عن أبي لا تصلح لرأسي الصغير المحشو بالهراء وبأفكار رَجل خَرِف وذكرى خَرِبة لعصا جَدّي المتآكلة، مصنوعة من خشب الخيزران لطالما خَذَلَتْه حين تَرَكَتْ الكلاب آثارَ أنيابها على مؤخرتهِ النحيلة، .. باكورته لم تزل منذ عقود مركونة في زاوية الجدار يحيطها خيط العناكب المسالمة الصغيرة .. قَبر جدي المهجور وما بَقيَّ منه مليء بالدغل ونسج العناكب ..
في المدينة الواهية .. بيتنا ملاصق لسياج المدافن، مكتضة برفاة الثائرين والمغدورين، ..
في الليالي المقمرة نسمع صيحات تُخيف العابرين جوار المقبرة، على الأغلب هو نياح الثكالى لفلذاتهم ..
ٌآآخ يالكثرتهم القتلة واللصوص ..
في المدينة المتداعية ما أكثرهن الميامس بخطوهن الثقيل ، بملامحهن الزرقاء الباهتة، عيونهن من زجاج، بأيديهن ناصية الأمر وبأعجازهن يُبَتُ القرار، ..
هكذا يبدو كل شيء آيلٍ للإندثار ..
لم يزل سلمان بأنفه الكبير وفكه المعوج، بقامته القصيرة وسحنته السمراء وشعره الأشعث يجوب الأزقة بردائه الممزق، يحمل خُرجا، كَثُرَتْ فيه الرقع،.. صِبية الحي يرشقونه بالحجارة.. كما يقال كان قد فقد عقله أثناء أسره الطويل، ومنهم من يؤكد لاحقته سعلية حين كان حارسا للمقبرة ...
تُلكم الحجارة هي هدايا حظه العاثر .. يفر دائما حين يفقد أعصابه يعمد إلى ضرب رأسه مِرارا في أقرب باب،..
الوحيد من يسعفني في هذا الزخم التعيس حين يمرق في حينا وعلى كتفه سلة من الخوص، حامل النايات الضرير، كم يحزنني إرتعاشة الناي بفمِه، وبترانيم شجية تلامس الشغاف، .. فأجهش وأنا أعد خيباتي وحال وطن مستباح ..
في المدينة البائسة فُقِدَت الألوان في عيون الجياع، وبات الخبز الأسمر حُلم المحاجر، ..
أبحث عن هواء نقي أو فسحة من شعاع لا يلوثه عتم الرذيلة، أبحث عن كوة أَلج فيها جسدي المنهك وأغرق عميقا في الرقاد ..
يصيبني الوهن لدرجة الغثيان، في رأسي دوران، ليتني أختفي بعيدا، بُعدَ الأنسان لغريمه الأنسان ..
في المدينة القديمة لن يطول بقائي، كل شيء سيمضي، سأفنى في مكان مجهول ما، و في جعبتي حلوى منتهية الصلاحية و في صدري مغروزة بنصل حاد شهقات موجعة.

القراءة//
يقول الناقد الأمريكي "رينيه ويلك" أن مفهوم (نظرية الأنواع الأدبية)، أصبح في موضع شك، أنطلاقاً من كون الشعر (يحمل معنى التعدد وكثرة الأنواع، لأن الشعر ليس نوعاً واحداً، وإنما هو عدة أنواع)، "رشيد يحياوي، الشعرية العربية، الأنواع والأغراض، ص5".
والشعر العربي الحديث يخضع لهذه التعددية النوعية، والحديث عن كثرة الأنواع تشكل مصدر جذب للشاعر للخروج على المألوف من الشعر التقليدي والأنواع الأخرى، وأستخدام تقنيات سردية، لإن النص السردي يعتمد تقنيات السرد والصورة الشعرية، فهو يعطي للشاعر إمكانية تدفق شعوري للذات الشاعرة والبوح من خلال اللغة.
(لقد كرست القصيدة السردية اعرافاً جديدة في قراءة النصوص الشعرية، تستلزم بالضرورة البحث عن شعرية خاصة بها، تتخذ من السردي في الشعري نمطاً للكتابة، لا تفترض كون السرد نتوءاً زائداً يبدو وكأنه ملصق على جسد النص الشعري، بل بوصفه مكوناً حيوياً من النص، لأن أستخدامه في الشعر ــ على رأي أدونيس ــ مشروط "بأن تتسامى وتعلو به لغاية شعرية خالصة")، "خليل شكري، القصيدة السير ذاتية واستراتيجية القراءة". لقد تأثرت نصوص السرد بالشعرية للتخلص من التقريرية والمباشرة، مثلما كان للسرد مساهمته في بناء النص الشعري الحديث.
قد يشكل النص الشعري بعض ملامح حياة الشاعر، مما يجعل من القارئ مطلعاً على ظروفه الإجتماعية والفكرية والنفسية، ومشاركاً في سرد الأحداث ووصفها، وليس مجرد متلقٍ يشاهد ما يحدث فقط. (أن هذه الرؤيا الجديدة للغة الشعرية ساهمت، إلى حد بعيد، في بلورة حساسية شعرية جديدة غيرت جذرياً مفهومنا لماهية الكتابة الشعرية). فالشعر تجربة ذاتية انفعالية يحياها الشاعر ويحس بها، وتعبر عن أزمته الوجودية والإنسانية حين تمتزج بالأنفعالات النفسية في لحظة معينة.
مثلت المدينة ثيمة مركزية بارزة ومهمة في الشعر العربي قديماً وحديثاً، وصورة محورية تمثل وعي الشاعر. فتعد مورداً مهماً من موارد الشعر المعاصر، ونواةً تنطلق منها رؤى الشاعر، حين يريد الولوج الى عوالمها. 
ونحن نتحدث عن المدينة، علينا أن نعود إلى لفظة (المدينة) في اللغة، فهي في "لسان العرب" مشتقّة من الجذر (م د ن)، الذي يعني الإقامة في المكان، و(مَدَنَ المدينة) أي أتاها وقصَدها، و(مدَن المدائن) أي بناها ومصّرها، وتمدّن أي تخلّق بأخلاق أهل المدن، وانتقل من الهمجيّة إلى حالة الأنس والظرف والتأدّب.
يُطرح موضوع المدينة وأستحضار أجوائها وتداعياتها في نفسية بعض الشعراء، كحالة من اليأس والكآبة وأنعدام الأمن والإحساس بعدم التوازن النفسي، والتشظي، كاشفة عن هشاشة الإنسان، وصراعه مع الذات، وشعوره بالأغتراب والعزلة داخل فضائها، الذي تنتفي فيه القيم النبيلة، ويمكن أن نشير هنا الى ما قاله الناقد المصري "الدكتور عزالدين إسماعيل" عندما ربط بين أهتمام الشعراء العرب بموضوع المدينة، وتأثرهم بالثقافة الغربية، وتعرفهم على الشاعر الإنكليزي "ت. س. إليوت" (1888 - 1965)، وقصيدته الذائعة الصيت "الارض اليباب" التي أكد فيها موقفه الناقم من المدينة لما (يشيع فيها من نقمة على وجه الحضارة الحديثة، وما أحدثته من تمزق للنفس البشرية والعلاقات الإنسانية التي تربط بين الناس)، "د. عز الذين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر – قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ص326".
تتناول هذه القراءة دلالة المدينة في نص الشاعر "علاء الدين الحمداني"، الذي شكلت فيه الركن الأساسي ونقطة الأنطلاق المؤدية الى ولادة النص. 
جاء السرد بضمير المتكلم تارة وبضمير الغائب الذي يظهر من خلال سياق الجملة تارة أخرى، الذي كان له الحضور المكثف في النص، حيث استعمله الشاعر، في معظم النص، دلالة على طغيان الذاتية في النص، ودلالية إثبات هويته وأنتمائه، فهو يصف مشاعره تجاه مدينته، ونقل هذه المشاعر والإحاسيس إلى القارئ.
السؤال الذي لابد أن يطرح، ما الذي يدعو الشاعر اللجوء إلى السرد بضمير المتكلم؟ 
إن استعمال ضمير المتكلم في النص ينحصر في حالتين لا ثالث لهما، أما أن يكون المتحدث هو السارد نفسه، أو هو ضمير (السارد) الصوت الذي يختبئ خلفه السارد، الذي جاء تارة بضمير الغائب الذي يظهر من خلال سياق الجملة، وتارة أخرى بضمير المتكلم. فهو يتحدث عن أفكاره بطريقة مونولوجية، لغرض إيصال مشاعره وأفكاره إلى القارئ. 
لقد تعامل الشاعر مع المدينة كذاكرة مستباحة، وثيمة أضاءت وعي الشاعر المرتبطة بالقلق الوجودي، الذي سلب ذاته ليعيش حالة الأغتراب والأضطراب النفسي. فالشاعر جعل منها مرتكزاً يتكرر في معظم النص، وإشارة سيميائية وأيقونة مثيرة في أبعادها الدلالية والرمزية، ومفتاح لسبر أغوار النص لتشكيل دلالة المدينة فيه، من خلال فتح فضاءات النص وتتبع دلالتها وسيرورتها، وتناميها في النص. فهي في مخيلة الشاعر مدينة طفولة وذكريات، يعيد فيها إحساسه بالمكان، ويتغلغل في جسدها ليستنطق دلالات شواهدها.
نص الشاعر الحمداني نصاً مدهشاً في بنيته، ذا طابع سردي وصفي، ممزوج بحس شعري وجمالي، وبلغة شعرية إيحائية مجردة، لا تخلو من أسلوب التهكم والسخرية، وأنعكاساً لسوداوية الواقع المأساوي، الذي نخر (المدينة) من الداخل والخارج، حيث يتجلى فضائها في صور تشاؤمية وسوداوية مطلقة دلالةً على خرابها الإنساني الناجم عن الأزمات التي أحالتها إلى جحيم وخراب.
لقد جاء هذا الوصف من خلال أعتماد الشاعر أساليب تصويرية ولغة نصية تعبيرية، دمج فيها الأساليب السردية والشعرية والدرامية. فالمدينة وكما يقول "باتريك جديس" :(ليست مجرد مكان في الفراغ فحسب، وإنما هي أيضا دراما مستمرة طيلة الوقت). فهي (المتداعية) و(المهترئة) و(البائسة)، وفضاءً للحزن والمعاناة. 
(في المدينة المتداعية كثيرة هي الوجوه البائسة، ..) 
(في المدينة المهترئة أغذُ الخطى بأقدام مُتعبة فيصخب بمسامع إنفعالي صراخ مُجهد وخيالات معتوه، ...).
(في المدينة البائسة فُقِدَت الألوان في عيون الجياع، وبات الخبز الأسمر حُلم المحاجر، ..).
إن صور النص ليست إلا تعبيراً عن حالة نفسية يعانيها الشاعر، لإن المدينة في نظر أغلب الشعراء، واحدة لا تتغير، كئيبة وقبيحة الوجه، مملوءة بالرذائل، وكل ما فيها يعبر عن الحزن، وآلامها تضغط على أنفاس الشاعر، فتولد عنده فضاء للأغتراب، والشعور في العزلة.
(خانق الهواء المشحون بالقلق له رائحة الزوايا الرطبة).
(أبحث عن هواء نقي أو فسحة من شعاع لا يلوثه عتم الرذيلة،) 
لقد شغل الشاعر ذهن المتلقي منذ بداية النص، في محاولته - المتلقي- سبر أغواره وفك مغاليقه، فأختزل -الشاعر- الكثير من الأسئلة التي تنطوي على رؤية عميقة لواقع الإنسان، ومآلات خراب واقع المدينة، وصورها المشوهة. فجاء النص تعبيراً أنفعالياً مثيراً للدهشة، يكتنز الكثير من الأنفعالات عن المدينة التي بدت غريبة شاحبة، وكأن الشاعر يستنطق رمزيتها من داخل النص، فوجد فيها فراغاً نفسياً وأحساساُ بالأغتراب والوحدة والضياع، وبؤرة دلالات متراكمة ورؤى تحاصره في كل مكان، فجاءت تعبيراً عن إيقاع الحياة فيها.
أرى أن النص فيه الكثير من التلميحات الذي كُتبت به (الأرض اليباب) للشاعر "ت. س. إليوت"، فظل محصوراً بمقولة (اليباب) ذاتها كفكرة جاهزة، وليس كرؤيا. 
(بيتنا العتيق تتوسطه نخلة عجوز، ساقها معقوفا، ثمرها اليابس يفترش الأرض، مثل أفكارنا الساذجة، طرّحها يبابا..).
يدخل الشاعر في جدلية مع المدينة من خلال رسم أنماط رمزية لها، تعطي له إمكانية التفاعل مع شخوص، فيمارس عليهم كل أنواع القسوة. مثل (سلمان ذو الأنف الكبير وفكه المعوج، وقامته القصيرة)، وتنمر صبية الحي عليه، والثكالى ونياحهن على فلذاتهن، وكثرة القتلة واللصوص، والميامس ما أكثرهن، و(بأيديهن ناصية الأمر وبأعجازهن يُبَتُ القرار).
(لم يزل سلمان بأنفه الكبير وفكه المعوج، بقامته القصيرة وسحنته السمراء وشعره الأشعث يجوب الأزقة بردائه الممزق، يحمل خُرجا، كَثُرَتْ فيه الرقع،.. صِبية الحي يرشقونه بالحجارة.. كما يقال كان قد فقد عقله أثناء أسره الطويل، ومنهم من يؤكد لاحقته سعلية حين كان حارسا للمقبرة ...).
الشاعر الحمداني يريد أن يوظف هواجسه عبر مشاهده التأملية، لا يريد أن يصرح بأفكاره المجردة ولا المبالغة في وصف تلك الافكار، وإنما في الإيحاء عن طريق الصور الشعرية، الزاخرة برمزية مكونات المدينة.
(في الليالي المقمرة نسمع صيحات  تُخيف العابرين جوار المقبرة، على الأغلب هو نياح الثكالى لفلذاتهم .. 
ٌآآخ يالكثرتهم القتلة واللصوص ..).
أضحت المدينة إيحاءً للبؤس والضياع، فغابت أبعادها الهندسية وملامحها العمرانية الذي مثلها.
(بيتنا العتيق تتوسطه نخلة عجوز، ساقها معقوفا، ثمرها اليابس يفترش الأرض).
فتضيق على الشاعر وتبدو خاوية على عروشها، حتى غدت كمقبرة تنوح بها الثكالى، ومأوى للقتلة واللصوص، والميامس ما أكثرهن يجاهرن بالفجور والزنى، وتعاطي الدعارة جهاراً، فوجدوا أصحاب القرار في مواخيرهن ملاذاً.
(بملامحهن الزرقاء الباهتة، عيونهن من زجاج، بأيديهن ناصية الأمر وبأعجازهن يُبَتُ القرار، ..).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نـــوافــير للآداب والثــقافة ... رئيس مجلس الأدارة الاستاذ الشاعر علاء الدين الحمداني

أهلاً وسهلاً بك أنت الزائر رقم

النصوص الأكثر قراءة اليوم

اخر المشاركات على موقعنا

بائعة البخور // بفلم الكاتبة // مها حيدر

بحث هذه المدونة الإلكترونية


مجلة نوافير للثقافة والآداب 📰 صاحب الإمتياز الاستاذ الشاعر والكاتب الأديب علاء الدين الحمداني شاعر وأديب / عضو اتحاد الصحفيين/ عضو وكالة انباء ابابيل الدولية/نائب الرئيس التنفيذي لمؤسسة قلم

أحدث التعليقات

Translate

تابعنا على فيسبوك

من نحن

نـــوافــير للآداب والثــقافة ... مجلة عراقية عربية 📰 رئيس مجلس الأدارة الاستاذ الشاعر علاء الدين الحمداني
جميع الحقوق محفوظة لدى مجلة نوافير الإليكترونية ©2018

تنوية

المواضيع والتعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي ادارة المـجلة ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك