في قصيدة "تدفق العصف"للشاعر العراقي" حسين جبار محمد"انزلاق للوعي مغتربا، فالذات تائهة، وكل شيء حولها يضمر ويتلاشى :
...يتلاشى سمر الليل
تنساب الدموع
أركان الانهيار في أرجاء الروح
وهذا الخراب الكلي لعوالم الرغبة والجمال وأمجاد الذاكرة، وانفراط عناصر الانسجام، أفضى إلى تعطل سؤال الماهية في غياب العقل الفضولي، فاكتفت الذات الساردة في رسم لوحة قاتمة بألوان الاحباط :
...اللسان معقود،والفم تعلقه الظنون
العقل في متاهة الرخام
أمام هول فوضى الأشياء، واضمحلال تباشير الرخاء الروحي، واشتياق الحياة بأنوارها، وتآكل الإنسان في صمت،لم يبق للذات إلا إعلان حالة التفسخ والاندثار :
أشجار البرتقال باعت مواسمها
ألم الهزيمة يأكل عافية النصر
نهرول خلف ظل الموت
في مساحة النص توصيف قاتم لعالم منهار، تؤثثه الانتكاسة تلو الانتكاسة.فالعقل المستنير خارج التصنيف، والأفق معطل، ولم يبق إلا تحالف الأضداد، في احتفالية عبثية، لا خلاص منها:
النوارس تحارب المياه
الطحالب فوق عرش الذكريات
الضفادع في سدود الأوبئة
إنها حالة القطيعة والانفصام مع كل جميل ومؤثر، فحتى الأمجاد ماتت في الحاضر الكئيب، في انتشار غير طبيعي للهزيمة، وإرباك للرؤى :
ماللوقت مكان
هروب الرمال في توهج الهزيمة
إنه وعي المسافات المختزلة في ملفوظ"احتضار"،وشيوع التفاهة، فبتحالف الأضداد، فقدت القيم بوصلتها، فكان الرضوخ للوهم وإحصاء النكبات، في عبثية مقيتة.
لغة القصيدة توشحت بالسواد كدلالة على التشاؤم المتجذر في عمق المعاني، ولكنها مذهلة في مكونها الانزياحي المتفرد ومخترقة لعوالم الخيال، في انفجار دلالي يتجاوز مساحة المعنى الظاهر؛ومن مظاهر هذا التجلي الانزياحي في إنتاجية عميقة، قوله:"أشجار البرتقال باعت مواسمها"؛فهذا المكون الاستعاري يحيل إلى انعدام الزمن في انسيابيه الطبيعية ، وثبات الصورة على حالتها ؛ وفي قوله " ألم الهزيمة يأكل عافية النصر"استحضار للذاكرة المجيدة في حاضر عقيم، يبث الهزيمة في عروق الأرض والإنسان.
في البنية اللغوية للقصيدة انسداد للأفق، ومسايرة لحالة الانعطاف الشديد نحو الرمز العبثي، كقوله"البرد في غاشية الغيظ"،"النوارس تحارب المياه" ؛فالمعيار الوحيد الذي يستطيع تفكيك هذه الملفوظات دلاليا هو دمج الأضداد والمفاهيم والقيم في غرابتها، لأن في انقلاب الرؤى تصبح العتمة دليل الرشد،والشمس رمز الظلام، والجهل تاج العلم...إنها العبثية حقا! (مصطفى ولديوسف )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق