شهدت الإبداعات الحديثة ظاهرة لافتة مست الأجناس الأدبية في صميمها ، بحيث أصبحت هذه الأخيرة تتجاور و تتداخل في النص السردي الواحد، بل تذوب و تنصهر في هيكل واحد، متحدية التصنيفات التقليدية و الكلاسيكية التي تعودها المتلقي، لقد سعت هذه القوالب الجامدة لسنوات وعقود، أن تحافظ على هذه الفواصل الثابتة و القارة كقوانين و مفاهيم أساسية، يتم بواسطتها الحكم على جمالية النص وتقييمه فنيا.
وقد قارب النقد المعاصر هذه الظاهرة اللافتة، مدققا في عملية اشتغال المبدعين بهذا التداخل الحداثي للأجناس الأدبية، فهذه التجربة فتحت آفاقا جديدة للأدباء، بغية إبراز واقع فني جديد، تفاعلت معه ذاتيتهم الخاصة بحرية لا حدود لها، و فاتحة أمامهم كذلك آليات لكتابة إبداعية جديدة، تشبعت برؤية إنسانية. و لكن المؤكد أن هذا النمط الجديد لم يظهر من فراغ و لم ينزل من السماء، وإنما كانت له إرهاصاته الأولى، البسيطة والجزئية، ثم اكتسح المجال الكتابي كلية تقريباً، فارضاً نفسه ومشككاً في الموجود الكلاسيكي القديم. كما أسهم هذا النمط الجديد في انتقال مجال الرؤية عند القارئ من محدوديته إلى فضاء أوسع، فتعددت القراءات و أضحت إنتاجية النص لصيقة بمخزونه ( اي القارئ ) ثقافي و نفسي.
وقد تتبعت الدراسات النقدية العربية و الغربية هذه الظاهرة الحديثة، فانتبهت إلى ظاهرة إزالة الفواصل بين الأجناس الأدبية كتجربة مؤقتة و محدودة أحيانا و ثابتة أحيانا أخرى. فهذا التزاوج داخل النص الواحد يتكيف مع الإبداع الحداثي و التعددي و لا يناقض الجانب الشعري و الجمالي للنص الإبداعي من منطلق قانون التطور و قانون حرية الإبداع . فالنقاش النقدي المتجدد كان حول ثبات الجنس الأدبي أو تحوله ، نظرياً و تفعيلاً. أو بصياغة أخرى حول طبيعة الجنس الأدبي و جدواه و جدوى الدعوة إلى تحرره. ولكن وفي حقيقة الأمر، غطى هذا النقاش الجزئي من الناحية الفنية و الجمالية نقاشا عاما وكليا حول مفهوم النظام و الثورة و التمرد كمفاهيم عامة و شمولية، نقاش شغل المحافل الجامعية الغربية الفلسفية والسياسية منها.
لا يخفى على أحد أن قضية الأجناس الأدبية تندرج ضمن إطار نظرية الأدب أو ضمن الشعرية الأدبية، فهذا الطرح أصبح من المسلمات النقدية. فكل المهتمين بالمفاهيم النقدية يعلمون أن مجال اشتغال الشعرية هو الكشف عن الآليات الأدبية من حيث الدلالة والبنية وكذا الوظيفة.
وفي مقام آخر لا يمكننا الحديث عن الجنس الأدبي دون الحديث عن النص وعن العلاقة الجدلية التي تجمعهما، فتحديد كليهما مبني على وجود الأخر، فالنص هو المنطلق الأول لتقرير جنسه و يتحقق ذلك عن طريق البحث عن المتشابه و الثابت في النصوص المتراكمة. كما أن الجنس هو الذي يقدم شكل النص ويساهم في تشكيله، ومن جهة ثانية فإن قواعد الجنس الأدبي موجودة و لكنها غير محددة بشكل نهائي، فقد تتحول الرواية القصيرة إلى قصة طويلة نوعا ما، كما قد تتداخل الأسطورة مع الرواية التاريخية في إنتاج أدبي واحد أو تتحول اللغة السردية للرواية إلى لغة شعرية وهذا ما يحملنا على هذا التساؤل : هل يمكن كتابة تاريخ الأجناس إذا لم يكن ممكنا تحديد أي معيار للجنس مسبقا ؟ وحديثنا عن بنيات النص الأدبي، تجعنا نفترض أن النص الفني لا يكتفي أحيانا بتحقيق جماليته ووجوده بانتمائه إلى جنس أدبي ما، بل يحقق ذلك بالتمرد عن هذه القواعد التي تحدد الجنس.
ويُلاحظ تنوع المصطلحات المتعلقة بهذا المفهوم، في المراجع الغربية و العربية، منها:الجنس الأدبي /الأشكال/ الأنماط).
والجنس مفهوم اصطلاحي و نقدي و ثقافي يهدف إلى تصنيف الإبداعات الأدبية حسب مجموعة من المعايير كالمضمون و الأسلوب و اللغة التعبيرية…، فالجنس هو بمثابة عقد نصي أو اتفاق خطابي بين المرسل / الكاتب و المرسل إليه /المتلقي ، في سياق تواصلي ،يصنعه المتشابه و المشترك و القائم باتفاق،
وانقسم الجدال التنظيري و التطبيقي الحداثي حول الجنس الأدبي إلى قسمين:1ـ قسم تساءل حول جدوى بقاء الأجناس و الأنواع، مشككاً فيها و في فائدتها من الأساس.
2ـ قسم شدد بصرامة على وجود الأجناس و الأنواع، ولكنه فتح باب النقاش حول طبيعة الحدود التي تؤطر كل نوع.
و الملفت للنظر أن التوجه الحداثي الذي طالب بنسف الأنواع و الأجناس و دعا إلى القفز فوق الحواجز وتجاوز التصنيفات والحدود مع الدمج و المزج بين الأنواع، قد امتلك حججه و منظريه الذين تمسكوا بقدسية الإبداع و انفتاح النص الجمالي أمام كاتبه و المتلقي معا… ، فكانت حجج بعض الأدباء لذلك، هو إضفاء روح الجدة على النص من خلال الاستعانة بأدوات بعيدة عن النموذج الواحد، فهذا التداخل يسمح لهم بإنتاج نصهم الخاص بهم، مع السعي على إبقاء النوع الأساسي و الغالب، وهذا حتى لا يضيع النص الجديد في الفراغ، فاقداً بذلك هويته و مقللا من احتمال تلقيه بصورة مفهومة، ومقحما نفسه في دوامة من التغييب و الرفض و الاستبعاد.
أما في الدراسات النقدية العربية فإن مفهوم الجنس الأدبي يعد من القضايا الحديثة، إذ بدأ التطرق إلى هذا الموضوع بعد احتكاك النقاد العرب بالكتب الأجنبية بصورة مباشرة في القرن الماضي و بعد ترجمة العديد من الدراسات التي تناولت هذه القضية. والواضح أن المتتبع للكتب التراثية سيلاحظ قلة اهتمام النقاد العرب القدامى بمختلف الأجناس الأدبية و انشغالهم الكلي بالشعر.
إن واقع الكتابة الأدبية العالمية و كذا العربية، يؤكد لنا على تجلي ما يسمى انفتاح النص الروائي أو تداخل الأجناس الأدبية فيما بينها ضمن نص واحد. و يحدث هذا الأمر، غالبا، حينما يشعر الأديب أو يعي استحالة استيعاب الجنس الواحد لأفكاره أو لرؤيته أو لتجربته الشعورية والإبداعية أو وقتما يستمر الشاعر بداخل الروائي حيا، يسمع و يبصر و يتنفس و يتحدث ، من خلال الإطار الشعري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق