.
جدلية المعنى بين الوضوح والغموض
في مجموعة "أقف بين ظلّين" لجواد شلال
أ.د.سعد التميمي
بين غموض المعنى وعمق الدلالة تتأرجح شعرية جواد شلال في مجموعته (أقف بين ظلين) الصادرة عن دار الثقف للطباعة والنشر 2923 إذ يعتني في نصوصه التي كنت أتابعها في صفحته كثيرًا بالمراوحة بين الوضوح والغموض وغالبا ما يتجلى الوضوح في الجمل الإخبارية والوصفية المشحونة بالعاطفة ،أما الغموض فيتجلى في الانزياحات المتكررة التي ينتج عنها مفارقات دلالية ترفع من شعرية بقوة رغبة لتكسر أفق المتلقي وتفاجئه بصور شعرية فاعلة ، لما تخلقه من دهشة تستدرج المتلقي الى شرك النص لينغمس في أجوائه ويعيش أحداثه التي يسردها الشاعر بطريقة شعرية مؤثؤة من خلال الاختزال تارة ،والانتقال السريع من السرد الى الوصف تارة أخرى ،وهذا ما جعل المعنى بعيدًا بعض الشيء عن الوضوح الفاضح والمباشرة التامة، وذلك لأن الشعر ينتعش ويكتسب جمالياته وديناميته من أجواء التستر والغموض، وهذا ما أكده النقاد قديماً وحديثاً، فالجرجاني يرى ضرورة وجود ستر بين المعنى الشعري والمتلقي بغية تحقيق الجمال المنتظر وإحداث التأثير المطلوب، ولم يغفل النقد الحديث هذه القضية بل بالغ فيها حتى اخرج بعض النقاد ما يتصف بالمباشرة والوضوح من دائرة الشعر، ولتحقيق الهدف المرجو من الخطاب الشعري فان الشاعر في الغالب يلجأ إلى تفعيل خياله في كسر المألوف والمنتظر ومفاجأة المتلقي بعدد من المفارقات الدلالية ،التي من شأنها أن تعيد تشكيل المعنى وإغنائه بالخيال الشعري كي يكون فعالاً ومؤثراً ويعكس خصوصية هذا المعنى المعبر عن تجربة خاصة ومتفردة.
وهذا ما تكشفه نصوص (أقف بين ظلين) للشاعر جواد شلال الصادر عن دار المثقف للطباعة والنشر 2023 ،التي بلغت خمسًا وأربعين نصًا غلب على عنواناتها الطول فكثير منها يتشكل من جمل طويلة كما أنها تتماهى مع عنوان المجموعة في أن دلالتها تتخفى وراء ستار أو ظلال التأويل ، أذ يقول في نص "رسائل خافتة الضوء" :
كنت أود تقبيلك في متجر قريب من مزرعة قصب السكر إلا أن لون حقيبتك الذابل خيب أملي . بدأت لأجل ذلك أكتب نصًا مملوءًا بالمجاز وفيروسات اللغة الجديدة، هكذا أخبرني أحد الأطباء المصاب بداء الوشاية المتجدد.
لم يتفق معي أحد على كل الجنايات العذبة ، تم إلصاقي على رفوف النقد المكدسة في العقول المسكونة بلون الجمال الخشن وعذابات الطفولة، أخبروني أنك لن تضيف الأعشاب الطبية وأسراب الفراشات وآخر موضة لفساتين الصباح، والرقية الشرعية للتخلص من اللون الفسفوري . واكتشفت حينها أني متخم بجزر الخيبات وموسيقى الأنين وآيات الدموع ، أحمل على زندي الأيمن " باز بند" يحمل ثوراً مجنحاً ونشارة خشب رطبة وأسمال نصوص هجينة ، كل تلك الغربة وأنا أبحث عن قبلة مارة في الشارع الخلفي لحياة تحمل أفعى برؤوس مدببة..
إذ يحيل العنوان بوصفه موجهًا قرائيًا يأخذ بيد المتلقي للكشف عما يستتر خلف التراكيب النصية والتحري عن المعاني التي تظللها المفارقات باشكالها المختلفة، فصفة(خافتة)التي يصف بها (رسائل) التي يوجهها للمرأة ،والتضاد بين الخفوت والضوء يحيل الى التخفي يختاره الشاعر للمعاني تارة والرغبة بالتصريح تارة أخرى ، وعودة الى بنية هذا النص نجدهها التي يكتبها بنظام الأسطر،وتقوم على السرد وهذا ما تعكسه الأفعال(كنت،أود، خيب،بدأت،أكتب،أخبرني ،لم يتفق، أخبروني،اكتشفت، أحمل،أبحث،)وهذه الأفعال تسرد حال الشاعر ورغبته في الانعتاق من غربته وهذا ما تكشفه المفارقات التي تعتم الدلالة وهذا ما صرح به بعد أن فشل في الوصول الى قبلة الحياة بقوله(أكتب نصًا مملوءًا بالمجاز وفايروسات اللغة الجديد) وتتوالى المفارقات القائمة على الانزياح مثل(داء الوشاية،الجنايات العذبة ،رفوف النقد،الجمال الخشن،فساتين الصباح،جزر الخيبات، موسيقى الانين،أيات الدموع،أسمال نصوص هجينة،قبلة مارة) فهذه المفارقات المتوالية تنقل النص من الغنيائية والمباشرة الى فضاء الرؤيا والتأمل للوصول الى الدلالات التي يصور فيها الشاعر غربته وأمله في العبور الى ضفة الحلم ،وهذا ما ختم به النص (أبكي بهدوء ثم امسح دموعي بقطعة قماش أخضر)فاللون الأخضر يحيل للحياة والجمال والحلم والأمل،ويتكررهذا الاغتراب والجنوح للمفارقة في تفعيل شعرية النص في معظم نصوص المجموعة، إذ يقول في نص "هذار" :
أرتب حياتي على الرف.
أضع البأس وأرش قليلاً من مسحوق التردد.
أخبئه بين كتب قديمة
أرسم على لوحه وجهي أسارير الغنى، وألود بنفسي كي
أخمي سيمفونية العوز الصاخبة
ألملم ما تبقى من الروح وأنثرها على سواقي المحبة
المغطاة بغيوم بائدة
أغسل روحي يومياً.
نعم وبكل تأكيد
وأضحك حتى تبتل عيوني من وفرة الدمع
من ثم أتصفح التاريخ الشخصي.
فضبابية الدلالة تبدأ بالعنوان فـ (هاذر) قد تعني الشدة فيومٌ هاذرٌ شديدُ الحَرِّ، وقد تكون من الهَذْر وهو الكلام الذي لا يعبأ به، وفي النص تتأرجح الدلالتان ، فهو يلملم ما تبقى من الروح ويغسل الروح ويتصفح التاريخ لكنه يرى أن الحياة لا جدوى بها فالامل جميل ومخادع وهنا التقابل بين النور المتمثل بالعتمة والظلمة المتمثلة بالخدعة التي يصف بها الأمل،فالشعرية في هذا النص يتحقق بالانزياحات التي تتوالى وتهيمن على معظم الجمل مثل اضافة المسحوق للتردد وتجسيد اليأس والروح والتاريخ ووصف الغيوم بالبائدة والنفايات بالدسمة ،كل ذلك نقل النص من دائرة الكلام العادي المباشر الى فضاء الشعر ،ويتكرر هذا التوظيف للانزياح الذي يتجلى في مفارقات دلالية متعددة في نص "أبوابٌ تشرحُ تعبها" التي تقوم على حوار الشاعر مع ذاته :
سألتقي أنا
وأنا الآخر المختفي أود أن أعرف.
لماذا لا يرغب أن يظهر للعيان أمام الأشجار والمركبات
الحديثة وأجهزة الرنين والقطط وقرى التعب الدائم
من أنت حتى تسرق السعادة بمخالب ناعمة ؟
سنلتقي على طاولة واحدة وفنجان قهوة
أخبرني لماذا أنت أنا وأنا ليس أنت
لماذا يبدو عمرك طويلا مثل عمر السماء
كيف لك أن تختفي
وأنا الوجه الآخر للمحنة
أرتاد المدارس والمقاهي
فالحوار قد يكون بين الجسد(أنا) والروح(أنا الآخر) فالأول هو من يتصدى للواقع نوهذه الحوارية تعكس رفض الواقع ،وهذا التشتت يعكسه هيمنة الاستفهام الذي يتكرر أكثر من مرة وبه ينتهي النص (كيف لي أن اضحك للحياة وانتعش ولم اتأكد قد يكون "أنا" و"أنا الآخر" على حق) ليؤكد حالة التشتت والاحساس بالضياع ، ويعزز دلالة الاستفهام بعض المفارقات التي تشحن النص بطاقة شعرية مثل إضافة القرى الى التعب ووصف المخالب بالناعمة رغبة من الشاعر في فتح آفاق جديدة تتسم بالحيوية والفاعلية.
.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق